الصحابة من أسلم الناس صدوراً
فأسعد الجلسات التي تقابل الأصحاب: قيل لـ معاوية، وهو في السبعين -وقيل: في الثمانين-: [[كيف رأيت الحياة؟ قال: لبست كل لباسٍ، فما وجدت كلباس التقوى، وشربت كل شراب، فما رأيت أمر من غلبة الرجال، وأكلت كل أكل فما رأيت ألذ من الصبر على المصائب، وعاشرت الإخوان والخلان، فما رأيت كصاحبٍ يخاف الله، أجلس معه يقابلني وأقابله في مجلسٍ ليس معنا إلا الله]] أو كما قال، يذكر هذا ابن قتيبة وابن عبد البر، قال ابن المبارك في جلسة الأصحاب:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا عفافٍ وحياءٍ وكرم
قوله للشيء: لا إن قلت: لا وإذا قُلتَ: نعم قال: نعم
قال سبحانه في سلامة صدورهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:٤٧].
وقد ذكر أهل التاريخ أن علي بن أبي طالب وطلحة رضي الله عنهم وأرضاهم، في معركة الجمل، التي قامت بين عائشة وطلحة والزبير من جانب، وبين قومٍ من جنود علي، فقتل طلحة في المعركة -أحد العشرة- فنزل علي وترجل إلى طلحة، بعد أن رآه مقتولاً، فمسح التراب عن وجهه، ومسح الغبار عن لحيته وقبله، وبكى علي، وقال: [[يعز عليّ يا أبا محمد أن أراك مجندلاً على التراب، ولكن أسأل الله أن أكون أنا وإياك ممن قال فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:٤٧]]].
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه جلس مع الصحابة في المسجد، فقال: {يدخل عليكم من هذا الباب رجلٌ من أهل الجنة} فدخل رجل متوضئ تتقاطر من لحيته آثار الوضوء، حذاؤه في يسراه، فصلى ركعتين وجلس، وفي اليوم الثاني، قال عليه الصلاة والسلام ذلك، وفي اليوم الثالث كذلك، فذهب ابن عمرو وراء هذا الرجل، وبات معه ليلتين، وقيل: ثلاثاً، فرآه عادياً في صلاته، ليس هناك ما يلفت النظر، لا يتميز عن الناس في صيامه، وفي أذكاره، فقال: {يا فلان! والله ما بي إلا أن سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام أخبرنا ثلاث مرات أنك من أهل الجنة فماذا تفعل؟ رأيت صلاتك ليست بكثيرة -أي من النوافل- وكذلك صيامك، وذكرك، قال: أما وقد سألتني فوالله الذي لا إله إلا هو، ما أنام ليلةً من الليالي وفي قلبي غلٌ أو غشٌ أو ضغينةٌ أو حقدٌ أو حسدٌ لأحدٍ من المسلمين، قال: فبذلك غلبتنا} أو كما قال.
إذاً من أعظم النعيم سلامة صدور المؤمنين، وهذه لا تكون إلا في الجنة، أما في الدنيا فتجد الأحقاد والحسد، أحد الناس كبير في السن يدعو على أحد الأموات من المسلمين، قلنا له: لماذا تدعو عليه؟ قال: سرق علي قتب البعير، أسأل الله أن يقذفه بهذا القتب في نار جهنم! مسلم يصلي ويصوم وأخوه في الله، ويمكن أن يكون أخطأ في سرقة قتب، لا يساوي خمسة عشر ريالاً، فيدعو عليه أن يقذف الله به في نار جهنم!!
ما هذا الشح؟! وما هذا البخل؟!
شبر من الأرض قد يتقاتل عليه الناس، يخرج أحدهم المسدس فيقتل صاحبه!! وقد مررنا بقرية فيها بيتان متجاوران لأخوين شقيقين، يقول لنا أحد الدعاة: والله! إن صاحب هذا البيت لا يسلم على صاحب هذا البيت من عشر سنوات أو أكثر بسبب قطعة هذه الأرض، فأين الإيمان؟! سبحان الله! وصف الله مُلْك الجنة، فقال: {وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:٢٠] ووصف أهل الجنة، فقال: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:٤٧].
وكان لـ معاوية بن أبي سفيان مزرعة في المدينة في جانب مزرعة عبد الله بن الزبير ابن حواري الرسول صلى الله عليه وسلم، فدخل عمال معاوية في مزرعة عبد الله بن الزبير، فغضب ابن الزبير، وبينه وبين معاوية إحن، فكتب لـ معاوية: [[إلى معاوية بن هند آكلة الأكباد، أمَّا بَعْد:
فإن عمالك قد دخلوا مزرعتي، فأمرهم بالخروج، وإلا فوالله الذي لا إله إلا هو ليكوننَّ لي ولك شأن]] وذاك خليفة وهذا من الرعية، فالمكتوب إليه خليفة عنده السيف والجيش، فأتت الرسالة إلى معاوية، وكان من أحلم الناس، وذكر حلمه ابن كثير وابن تيمية وغيرهم من العلماء، فقرأ الرسالة، فعرضها على ابنه يزيد الذي لا نحبه ولا نسبه كما قال الإمام أحمد قال: ما رأيك في ابن الزبير كتب يتهددني؟ قال: أرسل إليه جيشاً، أوله في المدينة وآخره عندك يأتون برأسه! قال: بل خيرٌ من ذلك زكاةً وأقرب رحماً، فأرسل له رسالة:
[[من معاوية بن أبي سفيان إلى عبد الله بن الزبير ابن أسماء ذات النطاقين أمَّا بَعْد:
فوالله الذي لا إله إلا هو، لو كانت الدنيا بيني وبينك، لسلمتها إليك، ولو كانت مزرعتي من المدينة إلى دمشق لسلمتها إليك، فإذا أتتك رسالتي فخذ مزرعتي إلى مزرعتك وعمالي إلى عمالك، فإن جنة الله عرضها السماوات والأرض]] فلما وصلته الرسالة بكى حتى بلها بالدموع، ثم ذهب إلى معاوية في دمشق وسلم على رأسه، وقال: [[لا أعدمك الله حلماً أحلك في قريش هذا المحل]].
أما مجالس أهل الجنة، فقال سبحانه: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الصافات:٤٤] وتقدم هذا، وقال سبحانه: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن:٥٤] قالوا: هو اللين من الحرير، وسوف يأتي تفسير ذلك، وبعضهم يقول: بطائنها من إستبرق، أي: ما غلظ من الحرير، وبعضهم يقول: ما رق من الحرير، والمقصود أن الله ذكر الحرير مرتين:
الغليظ منه والرقيق، فالرقيق أعلى الطنافس، والغليظ من تحت، ولا إله إلا الله! من نعيم ورغد ما أحسنه! لا هم ولا غم ولا حزن ولا فرقة ولا فوت ولا خوف! نسأل الله من فضله.
وقال سبحانه: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:٣٤] يعني مرفوعة عن التراب، وكلما ارتفع الفراش كان أحسن وأحسن، وقد ورد في بعض الآثار أن الإنسان يغوص في فراشه، وقال سبحانه: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:٢٣] والأرائك أقل من الفرش، فهناك أصناف من المجالس منابر من نور، وكثبان من مسك، وفرش ممهدة، وفرش عالية، وأرائك، يغير الإنسان ما استطاع في كل يومٍ جلسات متعددة، فأين نعيم الدنيا؟! وأين لذتها؟!
أحد سلاطين الدنيا كان يملك قصوراً هائلة، وهو معروف في التاريخ ومشهور، فلما ملك وأكل وشرب، أتاه مرض أقعده، فأخذ يعوي ويبكي الليل والنهار، حتى تمنى الموت.
والوليد بن عبد الملك هذا الخليفة الأموي، ذكر عنه الذهبي: أنه لما حضرته الوفاة انبطح على التراب يبكي ويضرب وجهه، ويقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:٢٨ - ٢٩].
فأين النعيم؟! إنما النعيم في الإيمان وفي طاعة الواحد الديان، وفي أن تتعرف على الله، أما القصور مع الفسق، والسيارات مع ترك الصلاة والإعراض عن الله فهو والله خسارة وندامة.
وقال سبحانه: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:٧٦] والأخضر لونه جميل، والعجيب أني رأيتُ بحثاً لأحد الأطباء يقول: اللون الأخضر من أحسن ما يكون! ولذلك وصف الله الجنة بالخضرة ووصف كذلك لباسهم في الأحاديث الصحيحة بالخضرة، والطيور التي تأوي إليها أرواح الشهداء وصفت بالخضرة، وقال سبحانه: {عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} [الرحمن:٧٦] حتى ورد أمر في بعض المقاطعات في بريطانيا أن على الأطباء أن يرتدوا اللباس الأخضر عند إجراء العمليات، ولا يلبس الأحمر، وهذا ليس خزعبلات، بل هو علم، وما ذكر الله الأخضر هنا إلا لسر يعلمه الله، وربما تنشرح له النفس قال: فألزم الأطباء أن يلبسوا الأخضر حتى يستبشر المريض، والفأل الحسن يحبه الله والرسول عليه الصلاة والسلام، وذكروا من البحوث أن اللون الأسود يطوي النفس ويقبضها، ولذلك لم يحببه الله ولا رسوله، قال سبحانه: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:١٠٦].
وليس المعنى أن من كان أسود البشرة، فهو ليس محبوباً، بل قد يكون محبوباً عند الله وأرفع وأحسن إذا آمن واستقام، فإنه يكون عند ذلك من الأولياء، وأبو جهل كان أبيض، وبلال أسود، فـ بلالٌ في الجنة، وأبو جهلٍ في النار، فما أغنى ذاك أسرته ولا ماله، وما بعد هذا أسرته ولا فقره.
ولا أريد أن أستطرد، لأن ذلك يأخذ علينا من الوقت ولعل بعضكم سمع هذا البحث، فمن أتانا بعلمٍ يصدقه الكتاب والسنة قبلناه، والحكمة ضالة المؤمن، وما خالف كتابنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم رمينا به عرض الحائط.
ثم قال سبحانه: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:١٥ - ١٦].
وهذه الآيات يصدق بعضها بعضاً، وهي من باب العطف، أو من باب البيان، أو من باب الترادف، أو من باب التعجب.