[الوحدانية في حياة المسلم]
١/ وحدانية الحب:
أن تحب الله أعظم من كل شيء، {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:١٦٥] حباً يستولي على مشاعرك، أحب إليك من والدك وولدك والناس أجمعين، حباً لا يوازنه شيء، وعلامة الحب: أن تتمنى الشهادة صباح مساء, يعني: بأن تبيع نفسك من الله، فتكسب هذا الدم الذي يجري في شرايينك، رخيصاً لمرضاة الواحد الأحد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، هذا هو الحب.
والحب: أن تقدم محابَّ الله على محابِّك، فتستيقظ لصلاة الفجر، والجو قارس، والفرش وثير، واللحاف دافئ، والتعب كثير، والنوم عميق، فتنتفض كالأسد وتطير إلى المسجد فتصلي هناك، وفي صحيح مسلم أن الأسود قال لـ عائشة: كيف استيقاظه صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل؟ قالت: [[كان إذا سمع الصارخ يثب]] وإني أعلم ماذا تريد من قولها: يثب، تقصد: يثب كالأسد، كما قال تعالى: {يا يحي خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:١٢] أما المنافق فلا يثب، بل يتدحرج إلى المسجد كأنه يجرجر بالحبال، {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:١٤٢] فهم مثبطون، ميتون، كسالى؛ لأن حياة الحب لا تجري في دمائهم، ولا تجري في عروقهم.
٢/ وحدانية الرجاء:
ألا ترجو إلا الله، ولا تسأل إلا هو، ولا تعتمد إلا عليه، فالفتوحات والمكرمات منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وإذا لم يرد الله أن ينفعك لا ينفعك أحد، ولا يقدم لك خيراً أحد.
٣/ وحدانية الخوف:
الناس اليوم يعيشون في شرك الخوف، عندهم التمائم وهي محرمة، والطواف بالقبور، والشعوذة، والكهانة، وغالب الناس لا يعبدون الأصنام، ولا يسجدون للحجارة، ولا يستقسمون بالأزلام، ولا يعبدون الكواكب، ولا يسجدون للنجوم؛ ولكن أصابهم الله بشرك الخوف، وشرك الخوف من نواقض (لا إله إلا الله) وقد تكلم عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والشيخ محمد بن عبد الوهاب.
شرك الخوف الذي دبَّ، واسأل نفسك، تجد أن شرك الخوف عندك، وأنك تخاف من البشر أكثر من خوفك من الله، وأنك وإن أظهرت الشجاعة فإنك في وقت ساعات الصفر وفي وقت الشدائد تنهار، وليس عندك من رصيد (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ما يقدم رأسك رخيصاً لخدمة لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
واسأل نفسك، ولا تكذب عليها، وقف أمام نفسك خصيماً، واسألها طويلاً: أأنتَ تعيش شرك الخوف؟ نعم.
ستجد نفسك أنك تعيش شرك الخوف، وأن غير الله أهول عندك وأهيب من الله، ومن علامة ذلك: أنك تتحرز وتتحفظ وتحتاط من البشر، أما من الله فلا تحتاط، ولا تتحفظ ولا تتحرز، ومن علامة ذلك أيضاً: أنك تظن أنهم يذهبون برزقك، وسوف يعطلون مصالحك، وسوف يضرونك، وسوف يُذْهِبون عليك حياتك، وأنت ستحذر غيرك، حتى أنك تسمع التحذيرات: الله، الله، خافوا! اتقوا! تحفظوا! احتاطوا! احترزوا! الناس متربصون! أعدوا لك خططاً! درسوا لك دراسة! يريدون توريطكم بورطة! حفروا لكم حفرة!!! لماذا؟! من هو المصرف المدبر؟! من هو القادر الحكيم؟! من الذي بيده مقاليد الأمور؟! من هو الغالب على أمره؟! أنه الله سبحانه: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:٢١] {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:١٧٣] اسمع العبارة: (جَمَعُوا لَكُمْ) أي: رصدوا وخططوا، والله يقول: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:٧٩] أي: أننا نبرم قبلهم، هم يبرمون ونحن نبرم قبلهم {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:٨٠].
فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران:١٧٣] ارتفعت (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في قلوبهم، {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:١٧٣ - ١٧٤].
أنا أخبركم بتلاميذ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] ثم أوقفكم أمامهم، وهم أجدادكم؛ لتروا كيف عاشت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] قذائف في قلوبهم، وكيف عاشت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] على ألسنتنا، نرددها في صلاة المغرب وصلاة الفجر، لكن إذا أتينا إلى التطبيق في الواقع، ما استطعنا.
نحن أشبه الناس برجل يقرأ كتلوج السيارة كيف تُقاد، وكيف تُساق، ثم يركبها ويريد أن يقودها، فلا يستطيع، أو برجل يريد أن يَتَمَرَّن على التمارين السويدية، فيقرأها في كتاب رياضي، ثم يأتي ليطبقها، فما يعرف؛ لأنه قرأها نظراً، أو رجل مريض مصاب بالسرطان، فقرأ في كتاب كيف يعالج السرطان بالحبة السوداء؟ ثم أطبق الكتاب وقال: الحمد لله الذي شفاني يوم قرأت هذا الكتاب.
السلف عاشوا (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في الحياة.
سعيد بن جبير يدخل على الحجاج، فيقول الحجاج: والله لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى، قال: لو أعلم أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً.
ودخل أبو نصر التمار على المأمون، قال المأمون: والله، لأذبحنك، وأبو نصر التمار من أئمة أهل السنة، يقول إن القرآن غير مخلوق، والبدعي الضال المأمون يقول: إن القرآن مخلوق، فيقول له: قل: القرآن مخلوق، وإلا ذبحتُك، قال: تذبحني؟! قال: نعم.
فأخذ زرارة من قميصه في يوم شاتٍ وقطعه ثم رمى به على وجه المأمون، وقال: والله، لرأسي في الحق أخف من هذا الزرار.
ومَرَّ بي شاعر نبطي موحد، واسمحوا لي، ولو جعلتها استطراداً أو بين قوسين، ولو أنني لا أحبذ الشعر النبطي ولا أشجعه، لكني عجبت من هذا الصنديد النبطي الموحد، فبعض النبط موحد، وبعضهم ملحد.
بعضهم يتغنى بجنات عرضها السماوات والأرض، ويناجي ربه، ويقول قبل المعركة:
هبت هبوب الجنة وين أنت يا باغيها؟
وبعضهم يتغنى بالخدود والقدود والرموش والخمر والسهر والضياع.
قلتُ: إن شرك الخوف دبَّ في أعراق وأعماق كثير من الناس، فلم يريدوا أن يتخلصوا من شرك الخوف، لا أن يوحدوا الخوف لله عز وجل، فلا يُخف إلا من الله، ولا يُرجى إلا الله، والرسول عليه الصلاة والسلام يقرر هذا لـ ابن عباس، يقول -فيما صح عنه-: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشي قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك}.
والله يقول عن الناس ليقرر لهم: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:١٤٥].
هل سمعتم أن نفساً ماتت قبل حينها؟
نشرت جريد الندوة قبل شهر قصيدة بديوي الوقداني، أحد الموحدين الشعراء النبطيين، في قصيدة طويلة، منها ثلاثة أبيات أعجبتني، فيقول:
إن المنايا إذا مدت مخالبها تدركك ولو كنت في جو السما العالي
يقول: أن الموت إذا كُتب عليك، ولو طلعت إلى السماء فسوف يلحقك، فيقول: لا تخف من الموت، الذي يموت في المعركة، مثل الذي يموت في غرفة النوم، والذي يموت تحت الدبابة في سبيل الله مثل الذي يموت تخمة من الكبسة، سواء.
إن المنايا إذا مدت مخالبها تدرك ولو كنت في جو السماء العالي
اضرب نحور الفيافي مع تراقيها واغرب عن الهم تمسي خالي البال
دوس المخاطر ولا تخش عواقبها الموت واحد ولا عند القدر جالي
وهذه الأبيات من عقيدة أهل السنة والجماعة.
وقد قلتُ لبعض الطلاب: أضيفوها في آخر الطحاوية، خاصة البيت الأخير منها في قوله:
دوس المخاطر ولا تخش عواقبها الموت واحد ولا عند القدر جالي
يقول: ماذا تخشى؟ أنتَ ميتٌ ميت، انصر دين محمد صلى الله عليه وسلم، لا تخف إلا من الله، ما دام أن دين محمد صلى الله عليه وسلم ينتصر بهذه الطريقة فانصره، فإنك إن لم تُقْتَل مُتَّ.
يقول الحجاج الطاغية لعجوز ذبح ابنها في أول النهار، وأتى به بعد صلاة الظهر، فدخلت تتوكأ على عصا، قال: هِيْه! يهنأك ابنك الفاجر، ذبحتُه قبل صلاة الظهر، قالت: لو لم تذبحه لمات.
لله درها، تقول: لو لم تذبحه لمات، نعم، هو كذلك.
يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:١٤٥].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو يعلن لأوليائه، حَمَلَة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أن عليهم ألا يخافوا إلا منه، يقول: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:٥٢].
فيقول النبطي:
دُسِ المخاطرَ ولا تخشَ، ولا تكن جباناً هياباً خائفاً، وكن أشجع من البعثيين، وأشجع من الماركسيين، فهؤلاء البعثيون أقاموا أنظمة في العالم العربي على أكتافهم، ذبَّحوا الشعوب، والواحد منهم يقدم نفسه في متفجرات ويفجر الدبابة وهو بعثي، وتجد شباب محمد - صلى الله عليه وسلم - الواحد منهم يطير من خياله ويُغْمَى عليه إذا دعي للجهاد.
وشرك الخوف ينقض التوحيد، مثل النجاسة التي تنقض الوضوء، فما فائدة أن تحفظ متناً وتحفظ القرآن وأنت تخاف من غير الله أخوف من الله؟!
وشاعر آخر نبطي موحد يقول:
أنا يا كَرى مِثْلَكْ يِحِبِّ العُلا شَجْعانْ يِراهِنْ بْرَاسِهْ ما يْخَافِ الشماليةْ
والشمالية عند الشعراء النبطيين: السجن، فيسمون السجن الشمالية رمزاً.
فيقول: أنا لا أخاف من السجن، فهو ينظر إلى طائر وهو مسجون في قفص، فيلتفت إلى شجرة من النافذة، وإذا الكرى يغني صباحاً، والكرى: طائر مثل الحمام.
فيقول: غنِّ أو لا تغنِّ، حتى أنا في السجن أغني؛ لأني لا أخاف إلا من الله عز وجل.
أنا يا كَرى مِثْلَكْ يِحِبِّ العُلا شَجْعانْ يِراهِنْ بْرَاسِهْ ما يْخَافِ الشماليةْ
أنا بِعْتْ رُوحي من محمَّدْ وَلَدْ عدنانْ قَبَضْتِ الثمنْ، واللهْ يِشْهَدْ على النيَّةْ
يقول: أنا يا طائر بعتُ رأسى، والذى اشترى: الله، والثمن: الرأس، والسلعة: الجنة.
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:١١١] هذا من معالم (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وهي أن لا تكون مشركاً في خوفك.
٤/ وحدانية الطاعة:
فلا تكن مشركاًَ في طاعتك، بأن توجه بعض طاعتك إلى الناس، وبعضها إلى الله، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:٢٣].