[النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى توحيد الله]
وعند أبي داود وغيره بأسانيد صحيحة، أن حصين بن عبيد الخزاعي، والد عمران، وفَدَ على الرسول عليه الصلاة والسلام والرسول ذاك الإمام المعصوم، والقائد النِّحرير، والشيخ الجليل يضحك من عقول العرب، والله إنها تستدعي أن يضحك الإنسان طويلاً.
فإذا أراد الأعرابي أن يسافر استشار الصنم: هل يسافر أم لا؟
وإذا أرادت زوجته أن تلد أتى إلى الصنم وقدم له لبناً أو دهناً أو سمناًَ.
فأتى هذا الأعرابي، فقال صلى الله عليه وسلم: {كم تعبد؟ قال: سبعة} هذه السبعة ليست من الجن الذين يقولون: سبعة، فسبعة هنا بمعنى: ٦+١=٧، فهؤلاء يتخيلون في هذه الوثنية الحادثة، أن اسم (٧) سوف يضره.
ولا يضر إلا الله، ولا ينفع إلا الله.
لَعَمْرُك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانعُ
دعها سماوية، تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوسِ
سماوية: أي: أن الأمر من السماء.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] هذه تجري في دماء المؤمنين، تجعلهم شجعاناً، لا يخافون إلا الله، وسوف يأتي حديث عن ذلك.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {كم تعبد؟ قال: سبعة، قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء -فأوقفه عليه الصلاة والسلام أمام عقله وإرادته، وضميره، وأمام مستواه، وفكره وقال-: مَنْ لِرَغَبِكَ وَلِرَهَبِكَ؟} أي: مَنْ لك إذا اشتدت عليك الضوائق، وضاقت عليك الحيل؟
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرجُ
ضاقت فلما استحكمتْ حلقاتُها فُرِجَتْ، وكنتُ أظنها لا تفرجُ
ويقول أبو العلاء الأعمى، ولكنه -أحياناً- يأتي بأبيات جيدة، يقول حين دخل على ملك المعرة صالح بن عبد الله: أطلق لي أسارى المعرة.
قال: لا.
لا أطلقهم لك.
قال: أطلقهم.
قال: لا.
وفي الأخير قدر الله أن يغلبه ملك آخر يطلقهم، فأطلقهم، فدخل عليه في اليوم الثاني، فقال:
تقضون والفلك المسير ضاحكٌ وتقدرون فتضحك الأقدارُ
يقول: أنت يتيم، ليس عندك شيءٌ، فالذي يقضي وينفع ويحيي ويميت هو الله.
الشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {مَنْ لِرَغَبِكَ وَلِرَهَبِكَ؟}.
يعيشُها الطالبُ في قاعة الامتحان، يوم تُقَدَّم له ورقةُ الأسئلة، وتقدم أمامه ورقةَ الإجابة، فلا أبوه يعطيه الإجابة، ولا أمه قريبة منه تُغَشِّشه، ولا الأستاذ يستطيع أن يلقنه، ولا اللجنة تسمح له، فهنا يتصل بالواحد الأحد، وحينها يأتيه المدد إن كان تقياً.
ويعيشها الفلاح في مزرعته، حين تموت أشجاره، وتذوب أزهاره، وتجف أمطاره، فيتلفت، فلا الزراعة تعطيه، ولا الناس يمنحونه، ولا القريب يثيبه غيثاً أو يعطيه مطراً، فهنا يلتفت إلى الله.
ولذلك أوقف صلى الله عليه وسلم العرب أمام هذه القضية.
فعند أحمد في المسند من حديث أبي تميمة الهجيني، قال: وفدتُ على الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان صلى الله عليه وسلم يعطي كل إنسان بمدده، أو ببيئته التي يعيش فيها، أو بقدرته على التلقي، البدوي يخطابه بواقعه من البادية، والملك يخاطبه بملكه وديوانه، والوزير بوزارته، والمتعلم بعلمه، وأهل الكتاب يخاطبهم بعلم الكتاب، والمنافقون بما عندهم من وساوس وخطرات نفاقية، والمشركون بمعالم الوثنية، كلٌّ يعطيه بحسب بيئته وطبيعته.
يقول أبو تميمة: فلما وفدتُ قلت: يا رسول الله، إلام تدعو؟ قال: إلى الله؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم: {إلى الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك، وإذا أصابتك سنة مُمْحِلَة فدعوتَه أمطر عليك أرضك، وإذا ضلت ناقتك في الصحراء فدعوتَه رد عليك ناقتك} لا إله إلا الله! لا يعرف البدوي إلا الناقة، وإلا الأرض إذا أجدبت، وإلا المطر إذا جف، فهذه القضايا التي يعيشها ردها عليه الصلاة والسلام على من يكفله في ذلك.
ولا بد من مخاطبة الناس ببيئاتهم.
ذكر ابن قتيبة في عيون الأخبار قصة، وذكرها أيضاً ابن عبد ربه، وغيره من الأدباء، والقصة معروفة: وفد أعرابي من الصحراء على المتوكل الخليفة العباسي المناصر للسنة - المتوكل هو الذي نصر الإمام أحمد، ووقف معه، وأكرمه، وأعلى قدره- فدخل الشعراء يوم عيد الفطر على المتوكل يمدحونه، فقام الأعرابي الذي أتى من الصحراء، لا يعرف إلا الكلب والتيس، وقال للخليفة:
أنتَ من ماجد وصولٍ كريم من كثير العطايا قليل الذنوبِ
أنتَ كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوبِ
يمدح الخليفة بصورتين اثنتين، فهو يقول له: ما أنتَ بحفظك للود ووفائك للعهد إلا كالكلب الذي معنا في الصحراء، وأحفظ الحيوانات للود الكلب، ومن حفظ الكلب أنه لا ينبح صاحبه، وأنتَ في شجاعتك وفي منازلتك الأبطال وفي قتالك المعارك مثل التيس.
فقام الوزراء والجنود يريدون أن يبطحوه أرضاًَ، ويضربونه ضرباً حتى لا يدري أين القبلة، فقال الخليفة: دعوه، من أين أتيتَ يا أخا العرب؟ قال: من الصحراء، قال: دعوه، هذا لا يعرف إلا الكلب والتيس؛ لكن أنزلوه في الكرخ، فإني أراه عنده موهبة شعرية ثم ليأتني بعد سنة، فأنزلوه في خيمة في طرف بغداد عند الرصافة، بين الجسر والكرخ، فرأى الحدائق، ورأى الحضارة، الدنيا، والأسواق، وبعد سنة أتى ودخل على الخليفة وقال:
عيون المها بين الرصافة والجسر جَلَبْنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري
ثم مدح الخليفة، فعذره وأجازه.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {كم تعبد؟ قال: سبعة، قال: مَنْ لِرَغَبِكَ وَلِرَهَبِكَ؟ قال: الذي في السماء، قال: فاترك التي في الأرض، واعبد الذي في السماء}.
هذه قضيته عليه الصلاة والسلام أن يبين للناس أنه لا ينفع إلا الذي في السماء، {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:٣٠].
والله عز وجل يقول: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] والعرب تدري من هو الذي في السماء.
الأعرابي وهو مشرك يعبد الصنم، إذا تَرَجْرَجَتْ به سفينتُه في البحر، التَفَتَ إلى السماء، ودعا: يا ألله! يا ألله! يا ألله! {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:٦٥] مثل الطلبة الآن، لما طلعت النتائج؛ قليل مِنْهم مَنْ يحضر ليصلي في الجماعة، وقليل مِنْهم مِنْ يقرأ القرآن، ومَنْ يسبح، هل يضحكون على الله؟! الضحك على الله عيب، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:١٤٢] ويقول: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:٣٠].
فالذي يضحك على إرادة الواحد الأحد إنما يضحك على نفسه، فالله عز وجل يعلم ما تكنه الصدور، وما تخفيه الضمائر.
فالمقصود: أن الناس يعرفون من هو الله، ويعرفون أنه في السماء.
رأيتُ في ترجمة عيسى عليه السلام أنه مرَّ، وكان يشفي -بإذن الله- من الأمراض، وكان يعالج، وكان -بإذن الله- يحيي الموتى، فمر ببقرة، وقد اعترض ولدها في بطنها، وأصبحت في مشقة، وفي كرب لا يعلمه إلا الله، فالتفتت البقرة إلى السماء وقالت: يا عيسى، يا روح الله، ادع الله أن يفرج عني، فدمعت عينا عيسى، ودعا اللهَ ففرج عنها.
فالكائنات كلها تصمد إلى الله، ولذلك يقول الشاعر:
يا رب حمداً ليس غيرك يُحْمَدُ يا من له كل الخلائق تصمدُ
أبواب كل ملوكنا قد أوصدت ورأيت بابك واسعاً لا يوصدُ
الصالحون بنور وجهك آمنوا عافوا بحبك نومهم فتهجدوا