[معنى قول: (فداك أبي وأمي)]
وقال: (يا رسول الله! بأبي أنت وأمي) أي: أفديك بأبي وأمي، وهذا شرف عظيم، وابن تيمية كان إذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في الصارم المسلول في الرد على شاتم الرسول، يقول: بأبي هو وأمي، إي والله! ويقول الذهبي: بنفسي ذاك المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان الأنصار يقولون: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، ويقول حسان لـ أبي سفيان بن الحارث:
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
إلى أن يقول:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
ويقول الأعرابي:
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه الحياء وفيه الجود والكرم
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
يقول: بأبي أنت وأمي، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يقولها إلا في القليل النادر لبعض الناس، وتأملوا وتخيلوا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في بعض المواقف لبعض الناس من الصحابة: {ارمِ فداك أبي وأمي} سبحان الله! ويا له من شرف عظيم!
وهذا هو سعد بن أبي وقاص كما في الصحيحين، أخذ يرمي وكان من أرمى الناس، فما كان يرمي إلا وتأتي في رأس كافر، لا يخطئ أبداً، إنه دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يأخذ كنانته، ويأخذ أسهمه، ثم يضعها ويرمي، وسواءً قد قرر المكان أو صمم على الهدف، أو وجه على المرمى أولا؛ فإنها ستقع، قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧].
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوس
فأتى رضي الله عنه وأرضاه يوم أحد وعنده أسهم طويلة في رءوسها مشاقص من الحديد! فكان يضرب بها ويرمي، ويرى الرسول صلى الله عليه وسلم الرءوس تسقط على الأرض، فتبسم صلى الله عليه وسلم، وقال: خذ يا سعد! ويعطيه صلى الله عليه وسلم من كنانته وهو الذي دعا له.
فيعطيه، ويقول: {ارمِ سعد فداك أبي وأمي، ارمِ سعد فداك أبي وأمي} ولذلك يقول علي بن أبي طالب كلمة حق يسأل عنها عند الله: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد أبويه إلا لـ سعد بن أبي وقاص يوم أحد، فإني سمعته يقول: {ارمِ سعد فداك أبي وأمي} والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يعطي هذه التوشيحات والأوسمة إلا لأناس كبار في الإسلام.
أتى رجل من الأنصار وكان من أشجع الناس، تكسَّر سيفه من كثرة الضرب يوم بدر، وتثلم, ولم يبقَ منه إلا المقبض، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله! أريد سيفاً، الرجل هائج مائج، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: انتظر؛ فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم عوداً، ليس عنده سيف، فقال: خذ هذا هزه، فهزه فإذا هو سيف! وهذا ثابت بأسانيد صحيحة، فأخذه فضرب به فما تثلم، بل بقي يضرب جيداً، وبقي مع الرجل حتى يقال في بعض الروايات دفن معه في القبر ليلقى الله به.
حتى إذا سئل ما هي شهادته؟ يقول: هذا السيف، سلخت به أعداءك في سبيل الله، ليست هذه الشهادات الورقية التي إذا لم نعمل بها فو الله إنها خسارٌ وبوار وعار وشنار ودمار، إلا أن يغفر لنا الله بالعلم النافع.
فالرسول صلى الله عليه وسلم قد يعطي بعض الأوسمة والأمور في بعض المواقف.
أتى أبو دجانة، وهو من الأنصار وكان من أشجع الناس، وكان معه لفافة حمراء يخرجها إذا حضرت المعركة ويربط رأسه، معناها (خطر ممنوع الاقتراب) فكان إذا أخرجها، قال الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، أي: تأخروا، وأفسحوا له الطريق، فأتى يوم أحد؛ فأخرج عصابته فلف رأسه بها، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت؛ أي: غضب، فقال صلى الله عليه وسلم: من يأخذ هذا السيف؟ فقال المهاجرون والأنصار: نحن يا رسول الله! كلٌ يمد يده، قال: من يأخذه بحقه، فسكتت الألسن ونزلت الأصابع، وبقي أبو دجانة رافعاً يده الوحيد، وقال: ما هو حقه يا رسول الله؟ قال: {أن تضرب به حتى ينحني} هذا حقه، لم يقل حقه أن تغمده، أو تدخله عند الصانع، أو تلبسه وتتمشى به وتتبختر، حقه أن تضرب به حتى ينحني، قال: أنا آخذه بحقه.
قال أنس: فذهبت وراء أبي دجانة، فرأيته يفلق به هام المشركين، وفي آخر النهار أتى به وهو منحنٍ من كثرة ما ضرب به رضي الله عنه وأرضاه.