للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حب المساجد]

الرجل الخامس: رجل قلبه معلق بالمساجد، وهذا وجه بلاغي، وهي كناية عن حضور القلب، وحضوره مع الصلوات، وهذه صفة لطائفة من الناس من الأخيار يؤتيهم الله من الاستقامة ما الله به عليم، وكان أحد الصالحين في الأفلاج، وقد توفي قبل ثلاثين سنة، اسمه محمد بن عثميين وهو شاعر، قالوا عنه: مكث ثلاثين سنة ما زار أحداً ولا وصل أحداً، ولا جلس إلا مع أهله من البيت إلى المسجد، يفتح مصحفه بعد صلاة الفجر إلى الظهر، وكان صائماً طيلة الثلاثين السنة، وكان لا يفتأ يذكر الله عز وجل.

وذكروا أن بعض العباد انقطعوا لله عز وجل، فكانت قلوبهم معلقة، وسوف يأتي بيان بهذه الجملة.

وقوله: (قلبه معلق) فليس معناه أنه ترك قلبه في المسجد وذهب، لا معناه أن قلبه متوله بالمسجد، ولذلك تجد بعض الصالحين ينظر إلى ساعته دائماً: متى يؤذن؟ تأخر المؤذن؟ كم بقي؟ متى تؤذنون في هذا البلد؟

فقلبه دائماً معلق بالمسجد، غير الذين سهوا ولغوا وانصرفت قلوبهم، فإنه لا يقوم إن كان يريد أن يصلي إلا في آخر الوقت، وإذا أتى إلى الصلاة أتى ساهياً وقد صلى الناس , وقد تفوته الصلاة وينسى، لأن قلبه ما حضرت فيه عظمة الله، ولا كانت فيه منزلة لله عز وجل، وإلا فإن الإنسان المؤمن لا ينسى الله عز وجل فإذا ذهب الظهر وأتى العصر قال: والله نسيت صلاة الظهر، فإذا أتى العصر قال: ذهبنا مع فلان وتمشينا ونسينا العصر أهذا مؤمن؟ دائماً حاله هكذا! فإذا قلت له: صليت مع الجماعة.

قال: نسيت ما تذكرت الوقت، ذهب عني.

حتى يقول أبو الأعلى المودودي في رسالته كيف تقرأ القرآن يقول: هذا الدين يجب أن يكون في رأسك مثل الصداع، هل تنسى الصداع الذي في رأسك؟ تنزل السوق والصداع في رأسك، وتدخل المسجد والصداع في رأسك، وأنت جالس في البيت والصداع في رأسك ولا تنساه، فكيف ينسى الإنسان المسجد وهو بيت الله عز وجل.

قيل عن الإمام الأعمش رحمه الله، أحد رواة الصحيحين، من الذين حفظوا كثيراً من دواوين الإسلام والحديث النبوي: حضرته الوفاة فبكى ابنه كثيراً، فقال لابنه: ابك أو لا تبك، فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الإمام ستين سنة.

وهذا من باب حسن الظن بالله عند سكرات الموت.

وذكر ابن الجوزي عن عامر بن ثابت بن عبد الله بن الزبير أنه ما كان يترك المسجد، بل كان يأتي قبل الصلاة بأوقات، فأتى يوماً من الأيام في الصف الثاني، فقال: الله المستعان! والله ما صليت في الصف الثاني منذ عقلت رشدي، لم أصلّ إلا في الصف الأول.

قالوا: فلما حضرته الوفاة وهو في سكرات الموت أو قبلها بقليل سمع أذان المغرب، فبكى بكاءً طويلاً، فقالوا: مالك؟ قال: يصلي الناس في المسجد وأصلي في البيت.

قالوا: أنت مريض.

قال: والله لن يكون إلا خروج نفسي أو أصلي مع الناس، احملوني إلى المسجد.

فحملوه فلما صلى مع الناس قبضه الله في آخر سجدة.

فسلم الناس وإذا هو ساجد لله عز وجل، حركوه فإذا هو ميت، فقالوا لأبنائه: ما هذه الميتة السعيدة الحسنة؟ فقال أبناؤه: والله ما كان أبونا يقوم أي يوم إلا ويقول: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة.

فقلنا له: يا أبه، ما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني الله وأنا ساجد.

فلبى الله له ما سأل فتوفي وهو ساجد.

هذا لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى علم الصدق منه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {ورجل قلبه معلق بالمساجد} أي: لا يفتأ.

وكان سيد الخلق عليه الصلاة والسلام إذا ازدحمت عليه الأمور والأحزان قال: {أرحنا بها يا بلال}.

وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصلياً

توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترقَ أبواب الجنان الثمانيا

وكان عليه الصلاة والسلام -كما تقول عائشة - يشتغل بمهنة أهله يقطع مع أهله اللحم، ويخسف نعله ويرقع ثوبه، ويحلب شاته، ويكنس بيته، وهو أشرف من خلق الله عز وجل، قالت عائشة رضي الله عنها: {فإذا سمع النداء، قام من مجلسه، فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه}.

وذكروا في السير أن أحد الصالحين كان يعمل نجاراً، لأن الطائفة المنصورة أو أهل النجاة يجعلهم الله عز وجل موزعين في الناس، من عالم وإمام ومسئول وفلاح وتاجر ونجار ومدرس ومعلم إلى غير ذلك من الأصناف.

فقالوا: كان يشتغل بالنجارة فإذا سمع النداء لا يرد المطرقة، وإنما يسقطها وراءه ويقوم.

إذا علم هذا؛ فمعنى (قلبه معلق بالمساجد) أنه دائماً يتذكر بيوت الله، وأوقات الصلاة، فإذا صلى الظهر تذكر العصر، فقلبه دائماً بالأشواق، وهذا مجرب عند كثير من الناس، حتى أن من الصالحين ولو لم يُؤْتَ علماً كثيراً، فإنك تجده إذا صلى المغرب يجلس مع أهله ومع أطفاله، يمازحهم ويداعبهم، ولكن بعد الفترة والأخرى ينظر في الساعة، أو يقول: أسمعتم الأذان؟ هل قرب العشاء؟ فهو يسأل لأن قلبه دائماً مستنفر.

أما المنافق فإنه إذا صلى ضاع الوقت ما لم يحرك وينبه ويصاح عليه -نسأل الله العافية- فإذا صلى فريضة تذكر الأخرى.

قال عدي بن حاتم الطائي، كما في كتاب الزهد للإمام أحمد: والله ما دخلت عليَّ صلاة والحمد لله إلا كنت لها بالأشواق وتوضأت قبلها.

وكان أهل المدينة لا يؤذن المؤذن إلا وقد امتلأت الصفوف في المسجد، فتناقص الحال مع تناقص خيرية الأمة، حتى يأتي المحسن منهم عند الإقامة، ثم تناقص حتى أن بعضهم لا يأتي إلا وقد صلى الناس فيسلم عليهم وهم خارجون من المسجد، ويقول: أصليتم؟ وهو يعرف أنهم صلوا، لكنه يريد أن يعتذر، كأنه لم يعرف.

وقد قال أحد الصالحين: فاتتني صلاة العصر في جماعة، فما عزاني أحد، ومات ابني فعزاني أهل البصرة جميعاً، فوالله الذي لا إله إلا هو إن مصيبة تلك الصلاة بقيت في قلبي ومصيبة ابني ما أحسست بها.

وذكر صاحب الحلية: أن أحد الصالحين فاتته صلاة العشاء في جماعة في حياته مرة واحدة، فقال: الله المستعان! ما فاتتني صلاة في جماعة إلا هذه الصلاة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة} لا جرم لأصلينها سبعاً وعشرين مرة، فقام فصلاها سبعاً وعشرين مرة ثم نام، فرأى في المنام أن خيالة عليهم ثياب بيض، وإذا هم جماعة في المسجد وقد ذهبوا، وهو وراءهم على أرجله، يمشي ويجري ويحاول أن يصل فلا يلحق، وفي الأخير التفت إليه أحدهم وقال: لا تحاول، نحن صلينا في جماعة وأنت صليت وحدك.

وقد أعادها سبعاً وعشرين مرة.

حتى أن ابن تيمية يقول: بل صلاة الجماعة واجبة، ويرى هو -كما ينقل صاحب السلسبيل - أنها شرط في صحة الصلاة، وإذا تخلف عنها المتخلف فإنه يحارب ويحرق بيته.

وقال: هو حكم رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وقال: فإذا استطاع الإمام أن يحرق بيته فليحوط عليه بيته إذا لم يكن فيه ذرية ولا نساء، فإذا علم أن الرجل تخلف ولم يكن له عذر، فإنه يحرق عليه بيته، وهو حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لكن هذا الأمر لا يتأتى، لأنه قد بلغ السيل الزبا، وقد أصبحنا نقول: يكفينا الله عز وجل من الكفر أن يدخل بيوتنا وحاراتنا، فنحن نعتصم بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:٣٦ - ٣٧] فهؤلاء دائماً قلوبهم معلقة بالمساجد، فهم ينتظرون القدوم على الله عز وجل، فكأنهم تركوا قلوبهم معلقة في المساجد وذهبوا بأجسامهم إلى البيوت.

فمن أراد أن يظله الله عز وجل، فليحرص على أن يكون المسجد مدرسته الروحية، وأن يتذكر كلما تكاسل أن الله سوف يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله كلما أتى إلى المسجد، وأنه سوف يمشي في النور التام كلما مشى في الظلمات إلى المساجد، وأن كل خطوة ترفع درجة وتحط خطيئة، فنسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن نكون من هذا الصنف.

<<  <  ج:
ص:  >  >>