[حسن القصد في النصيحة من آدابها]
فمن آداب النصيحة عند أهل السنة والجماعة؛ أن تخلص النصيحة لله، وأن يكون لك ثلاث مقاصد:
المقصد الأول: أن تبرئ ذمتك من هذه النصيحة التي في عنقك، ولا تكتم علماً يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:١٥٩ - ١٦٠].
الناس أمام هذه الآية ثلاثة أقسام: أما الكفار أنا لا أتحدث فيهم فهم في منزلة الحمير.
المسلمون أمام هذه الآية ثلاثة أصناف: صنف يأمر بالمعروف بالمعروف وينهى عن المنكر بلا منكر، ويعطي كل مسألة حجمها ومساحتها، العقيدة لها حجمها، والسنن بحجمها، والآداب والسلوك، فهو مهتدٍ على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذاك هو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم، ووارث علم النبوة، وهو الذي يصلح الله به، وهو الذي يستمر، وهو كالشجرة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وهو كالعين النابضة بالحياة، وهو كالمشكاة التي تلقي نورها، وهو كالشمس، وهو وهج في ظلام الليل.
وقسم آخر: أطلق الحبل وفلت الأمور، وكسر المعاريض، وخندق الطرق بحجة اللين، يرى المنكرات كالجبال ويقول: لا.
الإسلام ليس دين تطرف ولا تزمت، لا تنكروا على أحد، كلنا على خير، ومع الخيل يا شقراء! وكلنا مأجورون، والله غفور رحيم، ولا تشوشوا علينا، ولا تثيروا الخلاف.
قلنا: حنانيك يا بارد القلب! حنانيك يا ميت الروح! الغيرة ماتت في روحك فأنت لا تتحرك، ولذلك بعض الناس كأنه في ثلاجة، يرى المنكرات كالجبال، ولا يتمعر وجهه، ولا يتغير، ولا يقول كلمة ولا ينبس بلفظة؛ بحجة أن الإسلام يسر، وأن الإسلام دين عدالة ودين تراحم وتآخ، كلمة حق أراد بها باطل، هذا متسيب وهذا لا ينتج.
أين غيرتك يا فلان من غيرة سعد بن عبادة رضي الله عنه؟ يقول عليه الصلاة والسلام وقد سأله سعد: {يا رسول الله! لو وجد أحدنا مع امرأته رجلاً ماذا يفعل؟ -أي: وجده مع امرأته أجنبياً في بيتها ماذا يفعل؟ - قال عليه الصلاة والسلام: يذهب فيأتي بأربعة شهداء} هذا حقن للدماء، وحكمة، وحفظ للأرواح والأنفس، ولو أطلق عليه الصلاة والسلام، وقال: يذبحه، لكان كل إنسان يرى عند بابه رجلاً يضرب الجرس أو يطرق الباب؛ يذبحه عند الباب، لا.
يأتي بأربعة شهداء، قال سعد وهو سيد الخزرج: {يا رسول الله! أنتظر وأجمع أربعة! والله الذي لا إله إلا هو لأضربنه حينها بالسيف غير مصفح.
فضحك عليه الصلاة والسلام وقال: أتعجبون من غيرة سعد؟ والذي نفسي بيده إني أغير منه وإن الله أغير مني}.
غيرة حية أن تعيش معالم الدين، تتحرق إذا رأيت المرأة لا تتحجب، تتحرق لوعةً إذا رأيت الغناء يسود في الساحة، تتحرق إذا رأيت كأس الخمر ينتشر، تتحرق إذا رأيت المخدرات فاشية، تتحرق إذا رأيت شباب الإسلام يضيعون أوقاتهم، تتحرق إذا رأيت الصلاة تؤخر عن أوقاتها، تتحرق إذا رأيت الربا فاشٍ، تموت وتذوب، لكن تصل إلى مقصودك بحكمة وأناة، وتغضب لله عز وجل.
وقسم ثالث: أفرط حتى خرج من السطح، لأن بعض الناس يخرج من العرض وبعضهم من السطح، والوسط هم عباد الله الأخيار، بعضهم يقيم الدنيا ويقعدها على جزئية اختلف فيها أهل العلم، يضارب الناس على الإشارة بالأصبع، أو على وضع اليدين، ويلقي محاضرة بعد الصلاة، يَبكي ويُبكي الناس ويصيح، ويضرب المكرفون على مسألة جزئية، قال فيها أبو حنيفة بقول وخالفه مالك، أين إنزال المسائل منزلتها؟ والله يقول: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:٢٦٩] بعضهم يقوم فلا يشغل باله إلا كلمة صدرت من شاب، أو تصرف من شاب، فيجعلها قضية ويعممها ويكبر الأخطاء، وينسى ما هو أكبر منها.
عجباً!
أحد السلاطين الظلمة رآه أحد الوعاظ -ليس عالماً بل واعظاً- فقال لهذا السلطان: لي إليك حاجة، أسألك بالله أن أناجيك في حاجتي.
قال: تفضل -والسلطان هذا سفاك للدماء، يذبح الناس كذبح الدجاج، يأكل الربا، يزني، مجرم، طاغوت- فتخيل هذا السلطان أن هذا الواعظ سوف يتحدث له عن الدماء التي سفك، أو عن الزنا، أو عن الربا، أو عن تعطيل الشريعة، فدخل معه في مكتبه، قال: ماذا رأيت؟ قال: جنودك يُسبِلون ثيابهم.
قال: لعصر أنتج مثلك وأمثالك؛ حقيقٌ أن ينتج جنوداً يُسبِلون ثيابهم.
هذه القضية كلها، تأتي إلى هذه المسألة الجزئية وتنسى الكبار وتجعلها قضيتك.
فرضاً أنهم قصروا ثيابهم، ولكنهم يشربون الخمر، ويتركون الصلاة، ويزنون، ويسفكون الدماء.
وليكن مقصودك من النصيحة رحمة بالمنصوح، لأن بعض الناس تغيب عنهم هذه، أريد أن أنصح؛ لكن ما في ذهني أن أرحم هذا المسكين الذي وقع في خطأ.
والأمر الثالث: أن يكون قصدك، أن تكون كلمة الله هي العليا، ليبقى الدين قوياً وأن تفرح إذا سمعت بموجِّه أو برجل صالح، أو بمنفق، أو بداعية، أو بعالم يتكلم ويدعو؛ أن تحمد الله عز وجل، وأن تسأل الله له الاستقامة، والعون، والسداد.