[فتح مكة]
ومرَّ عليه الصلاة والسلام فقال: {متى تسمعوا بأول راية تصل إلى الحرم فأخبرونا} فكان الزبير بن العوام، أبو عبد الله، الحواريّ الكبير هو أول من كان له شرف السبق، نزل بجيشه بـ (ريع الحُجُون) قريباً من الحرم، فنصب رايته، فلما رآها صلى الله عليه وسلم تلمع مع الهواء، دمعت عيناه فرحاً بنصر الله، ونكس رأسه تواضعاً لله عز وجل.
قال ابن كثير: فانظر إليه في وقت النصر، كيف يتواضع ويهضم نفسه عليه الصلاة والسلام؟!
ثم مضى صلى الله عليه وسلم وكان يسأل: {هل هناك من قتال في أطراف الناس؟} فيخبرونه أن لا قتال، ويلتفت عليه الصلاة والسلام إلى جهة الخندمة، وهي مدخل من كِداء، فيجد السيوف تلمع في الضحى، والغبار ينقاد من على جبال مكة، فيسأل: {من هذا؟ فيقولون: خالد بن الوليد يقاتل كفار قريش فاحمرَّ وجهه صلى الله عليه وسلم} لأنه لا يريد القتال، فأرسل أناساً من الصحابة، اسألوا: ما الخبر؟ فأتوا وأخبروه: أن عكرمة بن أبي جهل رصد كميناً لـ خالد، فتقاتلوا معه، فعاد خالد إلى الصحراء، وهذا من دهاء خالد، ولذلك فإن من عباقرة العسكريين في تاريخ العقلاء وفي تاريخ العالم: خالد بن الوليد، وكتب عنه حتى أهل الغرب الأعداء، كتباً جردوها لسياسته، فإنه لما دخل في سكك مكة بالجيش، قام نساء مكة عليه بالحجارة من على السطوح، وخرج عليه مقاتلون من السكك والشوارع، فتظاهر بالانهزام، فانهزم معه الناس، فلما خرج إلى الصحراء، كرَّ عليهم فأباد خضراءهم.
ولذلك روى ابن كثير والذهبي أن رجلاً من كفار قريش أخذ سيفه يسمُّه شهراً -يسقيه السم من رأس السيف- وكان يرقص عند زوجته ويتمدح عندها ويقول:
هذا سلاحٌ كاملٌ وأَلَّه وذو غِرارَين سريع السله
قالت: ماذا تفعل به؟ قال: أفتك بمحمد وأصحابه، وأقودهم لك خدماً يخدمونك في بيتك.
وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا
فأتت المعركة، فأتى هذا الرجل، فدخل مع صفوان وعكرمة يوم الخندمة، فقاتل فتظاهر خالد بن الوليد بالانهزام، فخرجوا له بنسائهم وأطفالهم، فكر عليهم، فأخذ المسلمون يضربونهم بالسيوف ضرباً لا مرحمة فيه، فدخل هذا الرجل وقد تثلم سيفه ولما دخل بيته أغلق على نفسه الباب وزوجته معه، هذا صاحب التمدح القائل:
هذا سلاحٌ كاملٌ وألَّه وذو غِرارَين سريع السلَّه
قالت: أين أنتَ؟ ما أجدى عنكَ سيفكَ؟ قال:
إنكِ لو شهدتِ يوم الخندمه إذْ فرَّ صفوان وفر عكرمة
يقول: إذا كان فر صفوان وعكرمة وهم القادات فأنا من باب أولى.
والمسلمون خلفنا في غمغمه يلاحقونا بالسيوف المسلمة
أي: أنهم لا يتكلمون مثل الناس.
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
ودخل خالد رضي الله عنه وأرضاه، ولما وصل صلى الله عليه وسلم إلى ريع الحجون - كما يقول ابن كثير - التَفَتَ فرأى الخيالة، -خيالة خالد - وقد دخلوا من سِكَّة من جانبه، وإذا النساء القرشيات الكافرات يلَطِّمْنَ بالخُمُر على وجوه الخيول، يُرِدْن رَدَّ الخيول، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال لـ أبي بكر -وكان أبو بكر حفاظة نسابة علامة في الأشعار والأخبار- قال: {يا أبا بكر! كيف يقول حسان؟} لأن حسان يقول قبل ستة أشهر:
عَدِمْنا خيلَنا إن لم تروها تثيرُ النَّقْع موعدها كِداءُ
تظل جيادنا متمطرات تُلَطِّمُهُنَّ بالخُمُر النساءُ
فوقع ما قال تماماً، فإنهم دخلوا من كِِداء، ولطمت النساء الخيل بالخمر، حتى أنه يقول:
تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخُمُر النساءُ
يرد على أبي سفيان بن الحارث، يقول:
هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه وعند الله في ذاك الجزاءُ
أتهجوه ولستَ له بكفءٍ فشركما لخيركما الفداءُ
فتبسم عليه الصلاة والسلام، وأشار وقال: ادخلوا من حيث يقول حسان، ثم دخل عليه الصلاة والسلام، والصحيح عند أهل العلم أنه دخل من باب بني شيبة، وقيل: من باب تجاه المروة؛ لكن لا يهمنا هذا.
دخل عليه الصلاة والسلام فلما رأى البيت كبر، وهلل اللهََ عز وجل وأخذ المنادي ينادي: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن، ومن دخل الحرم فهو آمن، فأخذ كفار قريش يلقون السلاح، ويتكدسون في الحرم، ويغلقون عليهم بيوتهم ويدخلون في بيت أبي سفيان، وأخذت هند تتعلق برأس زوجها أبي سفيان، لأنها تقول: إنه هو الذي فشل الناس، أي: ما قاتل، وتقول: ماذا تغني عنك دارُك؟ لا أغناك الله، أو كما قالت.