[أسباب الضياع]
يقول ابن القيم: الضياع على عشرة أسباب، وأعظم ضياع ضياع القلب وضياع الوقت، ولا عوض عنها أبداً، والقلب إذا ضاع فقد انتهى مصير العبد إلا أن يحفظ الله عليه قلبه، والوقت إذا ضاع فقد انتهى العمر ولن يعود عليه أبداً، دقيقة تمر من حياة المؤمن والله لا تعود إليه أبداً:
أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي
إذا ليلة هرمت يومها أتى بعد ذلك يوم فتي
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي
ونسب ابن رجب الحنبلي في كتاب جامع العلوم والحكم للحسن البصري، أنه قال: [[ما أصبح صباح إلا ونادى مناد: يا بن آدم! اغتنم هذا اليوم، فوالله لا يعود إليك إلى يوم القيامة]].
قيل لـ كرز بن وبرة وكان من العباد الكبار: اجلس معنا قال: احبسوا الشمس وأنا أجلس معكم؛ من يمسك الشمس وهي تذهب في فناء الأعمار، واختصار الأوقات؛ لأنها لن تعود مرة ثانية.
يقول ابن عقيل الحنبلي -كما نسب ذلك ابن الجوزي له في صيد الخاطر، وذكر ذلك عنه صاحب طبقات الحنابلة وهو يترجم له- قال: إنه لا يحل لي أن أضيع شيئاً من وقتي، إذا ما أغمضت عيني قبل النوم تفكرت ماذا أكتب في الصباح، وإذا أتيت إلى فراشي لا أنام حتى أكتب ورقات، وإذا استيقظت كتبت، فإذا تعبت استلقيت على ظهري وسبحت الله عز وجل -حتى يتندر ويتلطف ابن الجوزي تلميذه وهو يتحدث عن ابن عقيل، قال: كان يأكل الكعك ولا يأكل الخبز! فقلنا له: لماذا؟ قال: حسبت أن بين أكل الكعك وبين أكل الخبز مقدار خمسين آية، قال: وألف كتاب الفنون وهو ثمانمائة مجلد كلها في أوقات الفراغ والأوقات الخاصة، أما أوقات التدريس وأوقات العبادة فشيء آخر، لكن الأوقات الثانوية الخارجية قد ألف فيها كتاب الفنون ثمانمائة مجلد.
يقول ابن تيمية: إني لأنزل السوق فلا أزال أذكر الله وأسبح حتى يظفرني ربي بحاجتي، وحاجته من الحاجات الأخروية، أو فتح علم حتى يقول: إنها لتعجم علي مسألة فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل فيفتحها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليّ.
ويروي عن جده عبد السلام؛ لأن ابن تيمية هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام.
يقول الذهبي في ترجمته: أحمد هذا شمس، وعبد الحليم نجم، وعبد السلام قمر، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة، أي: أن الشمس أحمد بن تيمية هذا، وكان جده قمر، يقول: كان جدي لا يضيع شيئاً من وقته، كان إذا دخل الخلاء قال لأحد أبنائه: اقرأ في الكتاب وارفع صوتك حتى أسمعك وأنا هناك، فأي حرص على هذا الوقت كحرص هؤلاء السلف الأخيار.
ولذلك أنتجوا وقدموا المجلدات التي ما استطعنا أن نقرأها، وهي محققة ومنقحة ومقدمة، وفي الرفوف، ونحن في راحة عظيمة، ولكن لا نستطيع أن نقرأ، فنسأل من الله عز وجل أن يحفظ علينا أوقاتنا.
وهذا العنصر يحتاج إلى كلام طويل وجلسة، لكن لا أريد الإطالة؛ لأن الإطالة معناها الإملال والسأم، وما بقي من الوقت فإن كان هناك حوار أو نقاش أو سؤال فله، وأثني بالشكر على الواحد الأحد الذي وفقنا للاجتماع في هذا المجلس المبارك، ثم أثني بالشكر لمدير هذا المعهد، ولأساتذته ولطلبته، ولكم أيها الحضور، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.