نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:٣٢] والصلاة والسلام على رسول الله القائل: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها أرضاً طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب حبست الماء، فنفع الله بها الناس، فسقوا وشربوا وزرعوا، وكان منها أرض إنما هي قيعان، لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بما أرسلت به رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي جئت به} صلى الله عليه وسلم، رفع رءوسنا بعد أن كانت مخفوضة، وشرح الله به صدورنا بعد أن كانت ضيقة، وأنار به قلوبنا بعد أن كانت غلفاً، وفتح به أعيننا بعد أن كانت عمياً، وأسمع به آذاننا بعد أن كانت صماً، فعليه صلاة الله وسلامه، أغلق الله أبواب الجنة لمن بعده إلا لمن أتى من بابه، فمن استضاء بغير نوره أو ظن أو اعتقد أنه يهتدي بغير هداه، أو التمس هدى وسبيلاً غير سبيله، فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً، وأولئك من الخاسرين.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرَّم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
أمَّا بَعْد:
أيها الناس! معنا شاب من شباب محمد صلى الله عليه وسلم، وصاحب من أصحابه رباه على سمعه وبصره، لنتربى كما تربوا، ولنتعلم كما تعلموا، ولنزهد كما زهدوا، هذا الشاب هو عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه.
حملته أمه وهو جنين وهي مهاجرة، وهي أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين رضي الله عنها وأرضاها العابدة الأوابة المنيبة الزاهدة، حملته في بطنها مهاجرة من مكة إلى المدينة، وكان اليهود في المدينة قد حقدوا على رسالة الإسلام، وتعنفوا على محمد صلى الله عليه وسلم، واستخدموا الدعايات المشبوهة، والشائعات وحرب الأعصاب ضد المسلمين، فقالوا: إن كهنتنا -أي: اليهود- قد أعطبوا نساء المسلمين، فلا تلد امرأة مسلمة بعد اليوم، فلما أتت أسماء رضي الله عنها وأرضاها ووصلت بجوعها وتعبها وعطشها ولدت بهذا الابن المبارك الصالح في قباء، وتسامع المسلمون بهذا المولود المبارك، ففرحوا لأنه وثيقة رد على اليهود، وأتي به ووضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبسم صلى الله عليه وسلم، وانشرح صدره بهذا المولود، وقبَّله على جبينه ودعا له بالبركة، ثم أخذ ريقاً من ريقه المبارك صلى الله عليه وسلم، فحنّك هذا الطفل المبارك، وأخذ المسلمون هذا الطفل وداروا به في شوارع المدينة، ليغيظوا به أعداء الله اليهود الذين استخدموا الشائعات ضد المسلمين.