[الإخلاص والنصيحة عند ابن تيمية]
المؤهل الأول: الإخلاص والتجرد والنصيحة فقصده وجه الله عزوجل، ومراده ما عند الله والدار الآخرة.
ولذلك أنصح نفسي وإياكم إذا أراد أحدكم أن يتكلم بموعظة، أو أراد أن يتحدث بحديثٍ في ناد، أو يلقي قصيدة في أمسية، أو يشارك بكلمة في حفل أو سمر؛ أن يصحح نيته ويقف مع نفسه وقلبه ويقول: ماذا أريد بهذه الكلمة؟ أليمدحني زملائي؟ أو يثني عليَّ مشرفيّ أم ماذا؟
فلذلك ينبغي أن نقف مع أنفسنا، ونمحص قلوبنا.
وابن تيمية كان من هذا الطراز؛ من المحاسبين لأنفسهم دائماً وأبداً.
يقول شيخ الإسلام: ينبغي الاعتناء بقوله صلى الله عليه وسلم: {ثلاثٌ لا يغلُّ عليهنَّ قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط بمن وراءهم} وكثيراً ما كان ابن تيمية يعيد هذا الحديث ويشرحه؛ فقد شرحه في الفتاوى، وذكره عنه ابن القيم في الوابل الصيب.
وكان يكرر ويعيد دائماً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {الدين النصيحة} ومعنى هذا الحديث: أن تنصح ولا تفضح، فالدين النصيحة وليس الفضيحة.
كتب الإمام الشافعي للإمام أحمد يخبره بأصول الدعوة؛ والإمام أحمد يعرف أصول الدعوة، ولكن الإمام الشافعي يريد أن يخبر غير الإمام أحمد؛ كأنه يقول: إياك أعني واسمعي يا جارة.
يقول الإمام الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وهذا تواضع منه.
والآن الإنسان منا الذي لا يصلي الفجر في جماعة، إذا قلت له: أنت لست من الصالحين؛ قام لمضاربتك وقال: مَنْ في الوجود من الصالحين إذا ما كنت أنا، أما تعرفني؟! فمن تقصيرنا ونقصنا ندعي الصلاح.
أما الشافعي لإمامته وجلالته وزهده وعبادته يقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة
ثم يقول:
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
أي: إذا أردت أن تنصح أخاً لك ثوبه طويل؛ فلا تأت من عند المكرفون وتقول: يا فلان بن فلان ثوبك طويل، الله يجزيك بما أنت أهلٌ له، نسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إما أن يصلحك أو يزيلك فهذا مبدأ خطأ، وأسلوب غلط، يلغيه الإمام الشافعي والإمام أحمد، ويتفق الجمهور على إلغائه، بل هو شبيه بالإجماع.
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوعٌ من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعطَ طاعة
وكثير من الناس يظن أنه يدعو إلى الله وهو ينفر عنه بشدته وكلماته السيئة.
فالمقصود: أن ابن تيمية كان يريد النصيحة لعباد الله عزوجل، ويريد أن يهدي القلوب إلى الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمْرِ النعم}.
إذاً ماذا نفعل مع الناس؟
الأمر الأول: إذا أردنا أن نتحدث مع الناس فيجب أن نكلمهم على أنهم بشر وليسوا ملائكة.
الأمر الثاني: أن نتكلم معهم بخلق حسن، ووجه منبسط ضاحك بالبسمة والكلمة الطيبة ولا نأتي إلى المسلم ونمسكه من تلابيب ثوبه ونجره، ونقول: اتق الله عزوجل، احضر الصلاة في المسجد، قصر ثيابك، ربِّ لحيتك هذه أوامر سلاطين المغول والتتر والبرابرة!
أما المسلم فإنه يعتني بالدعوة، ويعرف أنه يسير على منهج محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يقول الله فيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤].
يقول ابن تيمية في مختصر الفتاوي: بعض الناس يتعصب لهوى، أو مذهبٍ، أو طائفةٍ، أو حزب؛ فيجعلها هي المقصودة بالدعوة، وهذا أخطأ خطأً بيناً، فإن المقصود بالدعوة هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ليس الحزب، وليست الطائفة، وليست الفرقة، وليس الرأي الذي يدعو إليه.
ويقول في باب الإخلاص، في مختصر الفتاوي أيضاً: من أراد أن يبحث عن منصب في الدنيا فليعلم أنه لن يحصل على منصب أرفع من منصب فرعون ولكن أين فرعون؟! يعرض على النار غدواً وعشياً، يفطر ويتغدى في النار {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:٤٦] هذا الفطور والغداء، وأشد العذاب: العشاء.
ولذلك يسمى هذا: المنشر والمحشر؛ فالمنشر أن تخرج بالغنم في الصباح، والمحشر أن تردها في المساء.
فيقول: أما المنشر ففي القبر، والمحشر يوم القيامة.
فـ ابن تيمية يقول: إن كنت تريد المنصب فانظر إلى فرعون صاحب المنصب، وإن كنت تريد المال فاعلم أن قارون حصل على مالٍ كثيرٍ لا تحصل عليه أنت فكيف كانت عاقبتهما؟!
فعليك بإخلاص العمل لوجه الله؛ فإن وجه الله هو الباقي وما سواه فان.