بقي هناك موقف أختم به هذه الجلسة، ثم نستمع إلى الأسئلة.
عاش صلى الله عليه وسلم مربياً ومعلماً، كان في كل كلمة يربي جيلاً، وفي كل تصرف يحيي أمة عليه الصلاة والسلام، هاجر إلى الأنصار طريداً وحيداً فريداً فنصروه وآووه وحموه وقطعوا بين يديه، فجزاهم الله عن الإسلام خير الجزاء، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من حديث أنس:{آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار، الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق}.
هاجر إليهم صلى الله عليه وسلم فنصروه، وخرج في غزوة حنين، فغنم صلى الله عليه وسلم من الإبل ألوفاً مؤلفةً ومن الغنم والمال، فترك الأنصار وأعطى رؤساء العرب من صناديد بني تميم، لأنه يريد أن يتألفهم إلى الإسلام؛ لأنهم لا يريدون إلا مالاً، فهم مسلمون بالترغيب، مثل بعض الناس استقامته للعواطف، يرى المخيم والمركز الإسلامي شاب، فلا يأتي إلا عاطفة، لا يقصد الاستقامة، أو المحافظة على الصلاة، أو قراءة القرآن، لكن يأتي لأن المركز هذا فيه نشيد (لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سلما) في الصباح نشيد قبل الصلاة، وبعد الصلاة، وفي الحافلة، وتحت الحافلة، وفوق الحافلة، ونحن لا نقول: حرام، ولكن حنانيك، قصد وقصد، وهو مباح، فبعضهم يهتدي للعواطف، فإذا انتهى المخيم والمركز عاد على عقبيه وانتكس وأعرض عن المسجد، لأنه أقبل ترغيباً فقط، أو رغبةً في هذه العواطف، ثم ترك هذا الدين، وبعضهم يقول: أنا لا أحب الشباب إلا لأنني وجدتهم يذهبون في الرحلات والنزهات، ووجدت عندهم تمارين رياضية ونشيداً، فأنا أحببتهم لذلك، ثم ينتكس.
وكثير من الناس دخل في عهده عليه الصلاة والسلام للمال، فأعطى هذا مائة ناقة وهذا خمسين وهذا مائة، وترك الأنصار أيعطي سعد بن عبادة وإيمانه كالجبال؟! أيعطي معاذ بن جبل وقد أسلم لجنة عرضها السماوات والأرض؟! أيعطي أبي بن كعب؟! لقد تركهم لإيمانهم، لكن الأنصار رضوان الله عليهم تأثروا لأنهم ما عرفوا السبب.
سبحان الله! قاتلوا العرب، وذبحوا المشركين، وأخذوا غنائمهم، فأخذ صلى الله عليه وسلم الغنائم وأعطاها بعض الناس الذين أسلموا! فقالوا في مجالسهم: غفر الله لرسول الله، أعطى الناس وتركنا، وسيوفنا تقطر من دماء الناس فذهبت المقولة وانتشرت الشائعة، فوصل الخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال لـ سعد بن عبادة:{اجمع لي جميع الأنصار، ولا يدخل معكم إلا أنصاري، ولا يدخل معكم غيركم، فإذا اجتمعوا فأخبرني، فجمعهم جميعاً كباراً وصغاراً وشيوخاً وعلماءً وأبطالاً، فجلسوا، وأتى عليه الصلاة والسلام بحوار مفتوح ساخن، فسلَّم عليهم صلى الله عليه وسلم، وقال: يا معشر الأنصار! جزاكم الله خير الجزاء، أما أتيتكم متفرقين فجمعكم الله بي؟، قالوا: المنة لله ولرسوله، قال: أما أتيتكم متحاربين فألف الله بين قلوبكم بي؟ أما أتيتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وهم ينكسون رءوسهم حياءً}.
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
إذا اشتبكت دموع في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكى
فرفع صوته، وقال:{يا معشر الأنصار! والذي نفسي بيده لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم: أتيتنا طريداً فآويناك، وأتيتنا فقيراً فأغنيناك، وأتيتنا مخذولاً فنصرناك، قالوا: المنة لله ولرسوله، ثم قال: يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم؟ قالوا: هو ما سمعت يا رسول الله، قال: يا معشر الأنصار أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، فوالذي نفسي بيده أن ما تذهبون به أعظم مما يذهب به بالناس يا معشر الأنصار! والذي نفسي بيده لو سلك الناس شعباً ووادياً لسلكت شعب الأنصار ووادي الأنصار، الأنصار شعار والناس دثار، غفر الله للأنصار ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار، يا معشر الأنصار! إنكم ستجدون بعدي أثرةً فاصبروا حتى تلقوني على الحوض} فقابلوه بالدموع، بكوا حتى سالت دموعهم من على لحاهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا أصدق الحب -والله- وهذا أخلص الولاء، وهذه معاتبة الأصحاب وفي الحديث أمور أربعة: