الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً؛ وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
كانت مدرسته عليه الصلاة والسلام تمتاز على مدارس غيره بالرحمة، فقد علَّم أصحابه الرحمة؛ حتى أصبح أشدهم وأقساهم قلباً من أرحم الناس، ولولا هداية الله لـ عمر رضي الله عنه وأرضاه لما كان يرحم، ولا عرفت عيناه الدموع، فقد كان عمر من أقسى الناس في الجاهلية، كان سفاكاً فتاكاً لا يعرف المهادنة، ولا يعرف الحوار واللين والسهولة، وإنما الكلمة القوية والأخذ بالعنف، فلما سكب صلى الله عليه وسلم إناء الرحمة في قلبه كان أرحم الناس.
يقف عمر بن الخطاب يوم الجمعة فتغلبه دموعه رحمةً، فلا يستطيع أن يتكلم، يأتي يصلي بالناس فلا يسمع الناس قراءته من كثرة بكائه، أخذت الدموع في خده خطين أسودين، فمن جعل هذه الرحمة تسري في شرايينه وفي عروقه؟!
فهذا أسلم مولى عمر، قال له عمر بعد صلاة العشاء: أتنام؟! فقال: نعم، قال عمر: والله ما نمت منذ ثلاث ليال، انطلق بي يا أسلم، فقد جعل الله في عنقي الأرملة والمسكين والشيخ الكبير والعجوز، وإن الله سائلي عنهم يوم القيامة، قال: فذهب معه بعد صلاة العشاء، وبيده درة -عصا- يتمشى في شوارع المدينة، يسأل عن أمنها، وراحة أهلها, يسهر لينام الناس، ويجوع ليشبع الناس، ويظمأ ليروى الناس، فاقترب من بيتٍ في ناحية من نواحي المدينة، فسمع امرأة تبكي، فوضع رأسه على صائر الباب، فإذا المرأة في الولادة، فأخذ يبكي معها، قال أسلم: مالك يا أمير المؤمنين؟! قال: هذه المرأة في الولادة، إنك لا تدري ماذا تجد من ألم الولادة يا أسلم! إني أخاف من الله أن يسألني يوم القيامة عنها، ثم انطلق إلى بيت المال، فأحضر طعاماً وصنعه لها وقدمه، فلما أصبحت تأكل وارتاحت قالت لـ١٠٠٠٠٢٩>عمر - ولم تعرفه-: والله إنك لخير من عمر بن الخطاب.