للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[يونس مع لا إله إلا الله]

خرج يونس بن متى عليه الصلاة والسلام مغاضباً من قومه، فذهب في سفينة، ما استأذن الله، ولا بد له أن يستأذن الله لكن هكذا كتب الله، فخرج في السفينة في البحر في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل، فالليل إذا أظلم لا ينوره إلا لا إله إلا الله، يقول عليه الصلاة والسلام فيما يروى عنه لـ أبي ذر: {صل ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور، وتصدق بصدقة على المسكين لهول يوم النشور} ظلمة الليل لا ينورها إلا صلاة الليل وهي نور في القبر.

خرج يونس عليه الصلاة والسلام في السفينة في ظلمة الليل، فلما أصبح في السفينة أرسل الله عليها ريحاً كادت أن تقلبها مرتين أو ثلاثاً، قال ربانها أوقائدها: معنا رجل عصى الله نريد أن نخرجه من السفينة، قال الله: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:١٤١].

انظر ما أحسن الأسلوب، وما أحسن العبارة، وما أجمل روعة وإبداع وأسلوب القرآن، (فساهم) أي: اقترع معهم بقرعة، فكان من المدحضين، أي أنه فشل بالقرعة، أتت عليه القرعة أول مرة فقال: (أنا بريئ) قالوا: نعيدها، فأتت عليه ثانية، قال: أعيدوها، فأعادوها ثالثة، فأتت عليه فأخذوه بيديه وسط البحر، لا أهل ولا ولد ولا زوجة ولا مال ولا قبيلة ولا عشيرة، لكن.

فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان

فأخرجوه فألقوا به في ظلمات ثلاث، فليت اليم والليل كفياه، لكن تلقته سمكة عظيمة فأدخلته بين أضلاعها تماماً ثم أطبقت عليه، فأصبح بين أضلاع الحوت وبين حشاه، في ظلمة الليل وظلمة البحر فمن يتذكر؟ ولمن يعود؟ وعلى من يشتكي؟ وإلى من يلتجئ؟ إلى الله.

يقول لقمان لابنه وهو يوصيه بالعقيدة والتوحيد والإخلاص: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان:١٦] لو كانت الضائعة أو الضالة حبة خردل -سمسمة- وكانت في صخرة مقفلة أتى بها الله، فالله يقول عن قدرته: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام:٥٩].

يقول: أما مفاتيحكم وكنوزكم وبركم وشعيركم وذهبكم وفضتكم فعندكم مفاتيحها، الذهب والفضة والبر والشعير عندنا مفاتيحها نحن، لكن: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:٥٩].

وقع عليه السلام هناك، ولما وقع قال وهو في ظلمات بطن الحوت: ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٨٧] فجمع بين التوحيد والاستغفار، ماأحسنها من كلمة، يقول عليه الصلاة والسلام: {من أصابه هم أو غم فقال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً}.

قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٨٧] إلى أين ترتفع هذه الكلمة؟ إلى أين تذهب؟ أتذهب إلى الأهل والأطفال؟ أتذهب إلى القبيلة والعشيرة؟ يقول الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:١٠] وكذلك نعود إلى أسلوب القرآن وروعته حيث قال: إليه يصعد، ولم يقل: يرتفع لأن يصعد أعظم، قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:١٠] ارتفعت إلى الله، ومرت (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) بالملائكة فبكت الملائكة، فقد سمعت صوت يونس بن متى، كان دائماً يذكر الله ويسبح الله ويكبر الله ويهلل الله.

حتى يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:١٤٣ - ١٤٤] لكن كان يسبح لنا ويصلي ويزكي ويعرف الله في الرخاء، فعرفه الله في الشدة، فبكت الملائكة وقالت: يا رب! صوت معروف من عبد معروف أين هو؟ نريد أن ننقذه، الملائكة يريدون أن ينقذوا يونس، لكن لا يدرون أين هو؟ قال الله: أعرف أين عبدي فسوف أنقذه، فأخرجه الله وأنبت عليه شجرة من يقطين لأنه خرج عارياً مثلما ولدته أمه، فأنبت الله عليه شجرة الدبا فأكل منها وظللته، وإنما اختار شجرة من يقطين لأن الذباب والبعوض لا يأيتها: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:١٤٧ - ١٤٨].

<<  <  ج:
ص:  >  >>