[من أشعار العرب في حب الأمهات]
وبالمناسبة فقد توفيت جدة المتنبي، وكانت من أسرة طيبة المنبت، فامتدحها وأثنى عليها ورثاها، وهو شاعر العربية الذي لا يشق غباره، وإن شاء الله سيكون هناك درس بعد فترة بعنوان: (مالئ الدنيا وشاغل الناس)؛ نعيش فيه ليلة مع المتنبي.
قبل وقاة جدته أرسل لها رسالة في منبج يدعوها لزيارته في العراق، فوصلت الرسالة فقبلت رسالته وبكت، ثم أصابتها حمى فماتت، ولم تزره، فاسمع العربية والقوة والإبداع بمناسبة بر الوالدة، وهذه جدة، قال:
ألا لا أرى الأحداث مدحاً ولا ذما فما بطشها جهلاً ولا كفها حلما
إلى مثل ما كان الفتى مرجع الفتى يعود كما أبدي ويكري كما أرم
لك الله من مفجوعة بحبيبها قتيلة شوق غير ملحقها وصما
إلى أن يقول:
أحن إلى الكأس التي شربت بها وأهوى لمثواها التراب وما ضما
بكيت عليها خيفة في حياتها وذاق كلانا ثكل صاحبه قدما
ولو قتل الهجر المحبين كلهم مضى بلد باق أجدت له صرما
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا فلما دهتني لم تزدني بها علما
يقول: أنا أعرف الليالي أنها تفعل كذا، فلما دهتني بجدتي ما زادتني بها خبرة، هي فقط أثبتت أنها تأخذ الأحباب.
منافعها ما ضر في نفع غيرها تغذي وتروي أن تجوع وأن تظما
ثم قال في جدته:
أتاها كتابي بعد يأس وترحة فماتت سروراً بي فمت بها غما
حرام على قلبي السرور فإنني أعد الذي ماتت به بعدها سما
تعجب من لفظي وخطي كأنما ترى بحروف السطر أغربة عصما
يقول: تعجبت من سطوري يوم كتبت لها فماتت.
وتلثمه حتى أصار مداده محاجر عينيها وأنيابها سحما
رقا دمعها الجاري وجفت جفونها وفارق حبي قلبها بعدما أدما
ولم يسلها إلا المنايا وإنما أشد من السقم الذي أذهب السقما
طلبت لها حظاً ففاتت وفاتني وقد رضيت بي لو رضيت بها قسما
فأصبحت أستسقي الغمام لقبرها وقد كنت أستسقي الوغى والقنا الصما
ثم يقول:
ولو لم تكوني بنت أكرم والد لكان أباك الضخم كونك لي أما
وهذا من أبياته القوية مثل بيته الأول الذي يقول:
قفي واغرمي الأولى من اللحظ مهجتي بثانية والمتلف الشيء غارمه
ومعنى البيت أيها الأحبة: لو لم يكن أبوك ماجداً أنتج مثلك للناس لكان يكفي أنك جدة لي، فهو يفتخر بها، ثم يقول: الفخر أنك جدة لي، فالفخر لك ليس لي في أبيات طويلة أنا أتركها إلى أن يقول:
فلا عبرت بي ساعة لا تعزني ولا صحبتني مهجة تقبل الظلما
فهذه بعض الأبيات في رثاء الجدة.
وقد رثى بعض الأحبة -وهو شاعر منطيق قوي- أمه في أبيات، أذكر بعضها يقول:
ماذا أقول وفيما أشتكي زمني صبراً جميلاً على ما كان من زمن
أقول والعمر جاث حول مرقدها: أماه! والخوف يدنيني ويرسلني
فيما تعانين من هم ومن ولهٍ أحس تحت إهابي ما يمزقني
هل تذكرين عظامي اسمع الصورة:
هل تذكرين عظامي وهي عالقة على يديك وريقات على فنن
أو تذكرين جفوني وهي مبحرة تحت اللفائف بين الضعف واللدن
أو تذكريها وقد ذابت موسدة ضلعين من صدرك الثرثار باللبن
أم الوحيد أجيبيني قد اقتربت نفسي ولكنها في الغيب لم تحن
فأطرقت ثم أومت لي مؤشرة إلى جبيني ومالت كي تطمئنني
قالت محضتك مكنوني فكن رجلاً في العمق من جرحي كالخنجر اليمني
إلى آخر ما قال.
وأعود إلى شرح الحديث.
ممن بر والدته ابن سيرين عالم التابعين يقول: ما صعدت بيتاً منذ أن وجدت أمي خوفاً من أن أعلو أمي وهي تحتي، في المنزل! وكان إذا دنا معها في المائدة لا يرسل يده حتى ترسل يدها، يقول: أخاف أن آخذ لقمة تشتهيها فأكون عاقاً.
ووصل رجل من أهل اليمن يطوف بأمه وهي عجوز، ويحملها على منكبه في حرارة مكة، ويطوف بالبيت، وعرقه يتصبب، فرأى ابن عمر فقال: يا بن عمر أوفيتها حقها؟ أبررتها؟ قال ابن عمر: لا والله ولا بزفرة واحدة.
وتعلمون في الصحيحين قصة من انطبقت عليهم الصخرة: أولهم الرجل الذي فرجت له الصخرة بسبب أنه حلب نياقه ثم أتى إلى أبويه الشيخين، فوجدهما نائمين، فبقي واقفاً باللبن وأطفاله يتضاغون عند قدميه حتى طلع الفجر، وأطفاله يطلبون اللبن، فاستيقظ والداه فشربا اللبن، فلم يوقظهما لئلا يزعجهما، ففرجت له الصخرة بمقدار بره بوالديه.
وتعلمون أن الأم مقدمة في الحق على الأب؛ فإن لها الاحترام الكثير، والخضوع الكبير، ولها ثلاثة أرباع الرقة والعطف والحنان، فإنها مرت بأمور وبأزمات وبوقفات لا يعلمها إلا الله، والوالد لم يمر إلا بربع ما مرت به من هذه المشاكل، ومن التربية والحنان على الولد.