للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[النعمة والإحسان من الله]

أولها: ذكر الضمير ولم يذكر لفظ الجلالة، فكأنه هو المعروف بالإحسان، وهو على ما كان قبل الزمان والمكان، وهو الذي قدم الإحسان للإنسان قبل أن يكون إنساناً، وبعد أن كان الإنسان، وبعد أن يموت الإنسان، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:٥٣] وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [الشورى:٢٨].

ثم قال سبحانه: {يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [الشورى:٢٨] والتشديد هنا للمبالغة، وهي للمبالغة في الإنزال، وكأن الناس يتحرون شيئاً ينزل فنزل عليهم بعد لأواء.

ثم قال: (الغيث) ولم يقل المطر لأن الغيث له سر عجيب، يغيث به الله البلاد والعباد، ولو قال المطر لاحتمل أن يكون عذاباً وتدميراً، فغالب ذكر المطر في القرآن عذاب وتدمير وخسف وإبادة، قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [الشعراء:١٧٣] ولكن قال: الغيث ليغيث الله به البلاد والعباد، قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى:٢٨] لقد تراجعت كثير من النفوس وشكت في قدرة الباري.

ولقد أخفقت كثير من الأرواح التي تربت على الفلسفة الغربية المادية التي لا تؤمن بالله، ولقد ظن دعاة المادة الذين يعبدون المادة ويلتجئون إلى غير الله، أن لا إله ولا قدرة ولا رحمة ولا عناية، ويستهتر بعضهم فيقول: كم من صلاة وكم من دعاء وما نزل الغيث! ولكن الله أسكت منطوقهم وفضح شريحتهم، وأبطل إرادتهم بالغيث الذي نزل هنيئاً مريئاً في أيام متعددة، فقد صلينا وبعد ساعات نزل الغيث، والله يقول: {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى:٢٨] من بعد أن ظنوا أن لا رحمة، اتجهت العجماوات والببغاوات، والحشرات والكائنات إلى الله، وهذا أمر معلوم بالفطر.

والله يقول في حديث قدسي يرويه أبو يعلى: {وعزتي وجلالي لولا شيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتع؛ لخسفت بكم الأرض خسفاً ولمنعتكم القطر من السماء} ولكن عناية الله ورحمته وحلمه عن كل مجرم وعاص أنه نظر سبحانه إلى هذه العجماوات والحيوانات، وإلى الأطفال والشيوخ الركع السجود، وإلى حملة القرآن والدعاة، والصالحين، فأغاث الله البلاد والعباد.

قال تعالى: {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى:٢٨] ما أحسن التعبير! وما أجمل العبارة! وصل الماء إلى بيوتنا قبل نزول الغيث.

لكن ما حل المشكلة وما قام بالأمن القلبي وما نزلت علينا السكينة بشيء كنزول الغيث، نعم امتلأت خزاناتنا من الماء الذي وصل إلينا من البحر، وصهاريجنا وبيوتنا، لكن حدائقنا يابسة، وأزهارنا قاحلة وجبالنا ميتة، فلما قال: {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى:٢٨] عاشت الأرض وترعرعت واهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:٦].

اهتزت: لبست حلة وتراقصت على القطر.

وربت: أخرجت أزهارها وثمارها وأشجارها، وغرد البلبل وسار الطير وأنشد الصداح الأناشيد على أفنان الشجر؛ شاكراً المولى تبارك وتعالى.

وفي نزول الغيث يقول سبحانه: {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:٢٨] وعبارة (الولي الحميد) جُعلت هنا لعبرة، فالولي: الذي ولايته عامة وخاصة، فأما نحن فولايته لنا خاصة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لماذا؟ لأننا حملنا الإيمان، واسلمنا لله، وأتبعنا رسول الله.

بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدم

لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم

وفي نزول الغيث دروس: أولها: أن إجابة الدعاء معجزة وكرامة، وأن هناك صلة بين هذا المخلوق الضعيف والله القوي الباقي تبارك وتعالى، وهو درس من دروس التوحيد، عاشه عليه الصلاة والسلام حقيقة أمام أكثر من ألف من أصحابه ونقلتها لنا كتب العلم، فمن كان في شك فليشك , ومن كان في ريبة فليرتب.

أما نحن فنقول: قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:٢٣] عاش الصحابة في عهده عليه الصلاة والسلام قحطاً وفقراً وجوعاً وجدباً، أتوا يصلون الجمعة والشمس تقطع الظهور لا غمام ولا سحاب ولا قزعة، دخلوا المسجد في حرارة الصيف المحرقة، فالرمضاء تلتهب وتكاد تأكل الناس، والسموم محرقة للوجوه.

وتقدم عليه الصلاة والسلام إلى المنبر، لم يكن عنده سابق حدث بما سوف يجري في الخطبة، كانت خطبته عن الإيمان، وكان يتكلم بها كالسيل بما فتح الله عليه.

وفي أثناء الخطبة دخل أعرابي المسجد فقاطع الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، صاح الأعرابي وقد بلغ به اللأواء إلى أن يصيح، قال: يا رسول الله! فسكت عليه الصلاة والسلام والتفت الناس إلى الأعرابي، قال: {يا رسول الله! جاع العيال، وضاع المال، وتقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا -ولم يتلعثم عليه الصلاة والسلام، ولم يفكر وقطع خطبته والتفت إلى الحي القيوم- فرفع يديه في لحظة وأخذ يقول: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، يقول أنس -راوي القصة- والله ما في السماء من سحاب ولا قزعة، فالشمس بيضاء محرقة، فثارت سحابة كالترس} قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢].

فأتت من وراء سلع بـ المدينة ثم توسطت سماء المدينة وثارت كالجبال، والرسول صلى الله عليه وسلم لم ينزل من على المنبر ولم ينته من كلامه، ثم أزبدت وأرعدت وأمطرت، وإذا الماء ينهمر على وجهه الشريف الذي هو كالبدر، ويتقاطر الماء على لحيته ويتصبب فيتبسم، قطعه التبسم عن الكلام.

ما رأي دعاة الإلحاد في هذه القضية؟ أي تحليل علمي على هذه الحادثة؟

ما هو مدلولها، أصدفة يدخل الأعرابي وصدفة تقطع الخطبة، وصدفة ترتفع اليد، وصدفة تأتي سحابة كالترس من وراء الجبل ثم تمطر في لحظة وتسيل المدينة؟!

فتبسم عليه الصلاة والسلام:

طفح السرور عليَّ حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني

ويقول: أشهد أني رسول الله، ونقول له: نشهد نحن الملايين أنك رسول الله، ونشهد أن رسالتك الخالدة التاريخية أثبتت قوتها وصدقها ونبوغها وروعتها وجلالها وجمالها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>