[اهتمام الصحابة بالأدب]
تولى أبو بكر الخلافة فيجعل الأدب المؤمن في حياته جزءاً كبيراً، بل هو نفسه من مواصفاته ومن مؤهلاته أنه كان خطيباً نَسَّابةً أديباً.
في اليوم الأول يعقد مجلس في دار بني ساعدة، وكاد هذا أن يتحول إلى كارثة، وكاد أن يصبح نكبة من النكبات التي أستعرضها لكم هذه الليلة، كاد أن يكون هذا المجلس معناه تغيير مسار الخلافة، كان الأنصار يريدون به أن يتولوا زمام الحكم أو يشاركوا الخليفة خلافته، فتحرك أبو بكر إليهم ومعه عمر وأبو عبيدة وأسكتهم؛ لكن ما سكتوا، وأراد عمر أن يحد القول لكن ما نفع إحداد القول؛ فما هي الحاجة؟ وما هو الموقف؟ وما هو الحل؟
الحل هو أن يتكلم أبو بكر، والحل أن ينطق بالكلمة اللينة التي قالها الله لموسى يوم أرسله إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٤].
قال أبو بكر: [[يا معشر الأنصار! آويتم وواسيتم ونصرتم وأكرمتم، فجزاكم الله عنا خير الجزاء، والله ما مثلنا ومثلكم أيها الأنصار إلا كما قال طفيل الغنوي:
جزى الله عنا جعفراً حيث أشرفت بنا نعلنا في الشارفين فزلَّتِ
هم خلطونا بالنفوس وألجئوا إلى غرفاتٍ أدفأت وأظلتِ
أبوا أن يملونا ولو أن أُمنا تلاقي الذي يلقون منا لَمَلَّتِ
فتهللت وجوههم، وانشرحت صدورهم، وحيوا القائد العظيم، وقاموا فبايعوه.
إن الكلمة المؤدية المؤمنة الصادقة تغير أفكار الشعوب وتوجه طاقات الأمم.
ويتولى عمر الجاد الخلافة، فلا يتبسم لأنه صارم، فالشيطان يسلك فَجَّاً، وعمر يسلك فَجَّاً آخر، وإن الأعداء تهاب عمر، وإن الأكاسرة والقياصرة على منابرهم وفي دواوينهم يخافون من سمعة عمر وهو في المدينة، كما يقول محمود غنيم:
يا مَن يرى عمراً تكسوه بردتهُ والزيت أدمٌ له والكوخ مأواهُ
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاهُ
لكن يرتاح للأدب، وأنا أورد قصة طريفة: أرسل عمر رضي الله وأرضاه النعمان بن عدي أميراً على ميسان قريباً من البصرة، فتولى الإمرة، وكان النعمان صحابياً؛ لكن يجيش الشعر بما لا يستطيع أن يحمله، وينفذ المصدوق وربما قال الشاعر ما لم يعمل، كان هذا الصحابي خفيف الدم، لطيف الشذا، جلس مع أصحابه في سمر، وقال:
فمن مبلغ الحسناء أن حليلها بـ ميسان يُسقَى مِن زجاجٍ وحَنتمِ
إذا كنتَ ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلمِ
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدمِ
ما معنى الأبيات؟
لما ولاه عمر يقول: من يبلغ زوجتي في المدينة أنه تطور بي الحال بعد ثورة (١٤) سبتمبر وأصبحتُ بعد أن كنت أنام على الرصيف أصبحت أميراً، وبعد أن كنت أشرب الماء الحار أشرب الخمر، ولا أشربه إلا في الحنتم والزجاج:
فمن مبلغ الحسناء أن حليلها بـ ميسان يُسقَى مِن زجاجٍ وحَنتمِ
إذا كنتَ ندماني: إن تريد أن تسمر معي وعازم على السمر، فلا تسقني في الكاسات الصغيرة، ابحث لك عن كأس كبير:
إذا كنتَ ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلمِ
ثم قال: لعل خوف عمر يدخل معه حتى في الجوسق:
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدمِ
ولم يفعل ولم يشرب الخمر، وما كان له أن يشرب الخمر وقد آمن بالله، وما كان له أن يشرب المسكر وقد عاهد الله وباع نفسه إلى الله.
وتصل الأبيات إلى عمر، ويقرأ عمر رضي الله عنه الخبر، ويستدعي أميره، وعمر ليس عنده كل شيء على ما يرام، وليس عنده أنصاف الحلول، كان في الحج يؤدب العمال بالعصا، وكان يتفقد الأمراء، ويسيس سياسة الأمة، ويقبل الرأي الموجَّه والعقل السليم والكلمة الصادقة الحارة.
يوافقه أعرابيٌ على المنبر يوم الجمعة وعمر يتحدث للناس، فيقول عمر أيها الناس! ما رأيكم إن رأيتم فِيَّ اعوجاجاًَ، فيقوم الأعرابي فيسل سيفه، ويقول: يا أمير المؤمنين! والذي نفسي بيده! لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا، فيتبسم الزعيم، ويقول: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر، من لو حاد عن الطريق قوموه إلى الطريق بحد سيوفهم أو كما قال.
استدعى الأمير، وقال له: ما قولك:
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادنا بالجوسق المتهدم
الحد عليك، وقد ساءني والله، قال: يا أمير المؤمنين! لا تعجل علي، والله ما شربت الخمر، وإنَّما قال الله عز وجل: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:٢٢٤ - ٢٢٦] قال عمر: أما الحد فقد أسْقَطَتْهُ عنك بهذه الآية، ولكن والله لا تلي لي عملاً، ثم عزله.
وكان عمر ينشد هذه الأبيات، -كما قال أهل التاريخ- ويستأنس بها؛ لأنها جميلة ورائعة، فما جعل ما فيها من خدش يسكت عمر أن ينشدها لجمالها، بل هو العاطفة والأدب والرقة رضي الله عنه وأرضاه.