[الصبر على هذا الدين]
إنه ذاكم المولى الضعيف المسكين الذي رفعه هذا الدين، فأصبح من ورثة جنة النعيم.
بلال بن رباح اسم يحبه المؤمنون وصوت تعشقه آذان الموحدين، ولا بد للمسلم أن يولد ميلادين اثنين وأن يعيش حياتين:
الميلاد الأول: يوم ولدته أمه.
الميلاد الثاني: يوم ولد في هذا الدين الجديد.
وبلال رضي الله عنه وأرضاه ولد ميلادين، وعاش حياتين، وصاحب عالمين، ولد مولى، وأستأسره الجبابرة وسلطوا عليه سياط الكبر والعنجهية، فكان مولىً لا حساب له ولا تأثير في الحياة، وأخذ إلى مكة مفصولاً ومعزولاً عن أهله وأمه، وعاش في مكة.
وفجأة صدع الرسول عليه الصلاة والسلام من على الصفا بلا إله إلا الله محمد رسول الله.
وذهب صلى الله عليه وسلم إلى سادات مكة يدعوهم إلى لا إله إلا الله، فكفروا بلا إله إلا الله، واعترضوا على رسول الله وكذبوه، وافتروا عليه وآذوه، وشتموه، فأنزل الله عليه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:٢٨].
معنى الآية: ما عليك من هؤلاء الكبار؛ فإنهم صغار عند الله، لا تعبأ بهم أبداً، ولا تعطهم شيئاً من وقتك ما دام هذا صنيعهم.
ولا تظن أن الإسلام سوف ينتصر على أكتاف المتكبرين المتجبرين، لكن اذهب إلى أناس يريدون وجه الله، من المساكين والفقراء والموالي، من الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً.
وذهب صلى الله عليه وسلم يبحث عن أحبابه وأتباعه وجنده وتلاميذه، فوجدهم في أصناف من الناس، في عالم الفقر والزهد والضعف والمسكنة، ومنهم بلال.
ورأى بلال محمداً عليه الصلاة والسلام فأحبه، والسر الذي زرعه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام في القلوب هو الحب، فجر أنهار الحب في قلوب أصحابه حتى كان الواحد منهم يقدم صدره أمام صدر الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقطع أمامه بالسيف إرباً إرباً، ويقول:
نفسي لنفسك الفداء يا رسول الله!!!
حب أجراه في قلوبهم، فأحبه بلال حباً استولى على سمعه وبصره وقلبه، فأصبح يتحرك في حب الرسول صلى الله عليه وسلم، يأكل وشخص الرسول أمام عينه، ويشرب وشخص الرسول في سمعه وبصره، ولسان حال بلال يقول:
أحبك لا تسأل لماذالأنني أحبك هذا الحب رأيي ومذهبي
أو كما قال الأول:
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي أفسر ماذا والهوى لا يفسر
فلما أحبه شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وعرض عليه الدين، فأحب هذا الدين؛ لأنه يرفض الرق، والعبودية لغير الله، ولأنه ينبز الظلم ويحارب الظلمة.
فلما أحبه، وشهد أن لا إله إلا الله، اجتمع الجبابرة على بلال، وضربوه ليعود عن لا إله إلا الله، فأبى، سجنوه وعذبوه، فأبى، ربطوه بالحبال وجرجروه على صخور مكة السوداء في الظهيرة وجهاً لبطن ليعود، فكان يتلفظ بقوة: أحد أحد.
من هو الواحد الأحد؟ إنه الذي أرسل هذا الرسول، وأنقذ الإنسان، والذي دعا قلبه ليؤمن بالواحد الأحد.
لطموه على وجهه فيرتفع صوته متأثراً ثائراً مجروحاً: أحدٌ أحد.
حب يجري في الدم لله ولرسوله، يسحبونه في الظهيرة جائعاً عارياً قد أثرت السياط في ظهره، تمزق لحمه على الصخور، وهو يقول: أحد أحد.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:١ - ٤]
إنها إرادة تكسر الحديد! وهذه هي المعجزة الكبرى التي أتى بها رسولنا عليه الصلاة والسلام، وهي تحويل الأعراب والموالي والفقراء والمساكين إلى جيش ضارب رهيب يفتح الدنيا بلا إله إلا الله.
يقول إقبال:
وأصبح عابدو الأصنام قدماً حماة البيت والركن اليماني
يقول: إنك يا محمد! حولت عباد الأصنام إلى حماة للركن اليماني والحجر الأسود.
ولما أسلم بلال أمام هذا التعذيب الهائل مر به أبو بكر وهو يعذب، فقال أبو بكر: أشتريه منك يا أمية - أمية بن خلف المجرم- قال: خذه ولو بعشرة دنانير، قال أبو بكر: والله لو جعلت ثمنه مائة ألف دينار لاشتريته بذلك، فدفع القيمة وأخذه، فأنزل الله: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:١٧ - ٢١] من هو الذي سوف يرضى؟
وهل أراد أبو بكر من بلال كلمة شكر؟
لا، بل أعتقه لوجه الله، وأتى به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام معذب الجسم ومنخور اللحم، السياط قد أثرت في مواضع من جسمه، فأخذه عليه الصلاة والسلام واحتضنه كما تحتضن الأم طفلها، وقبله ودعا له، وعينه مؤذنه الأول الذي أذن في فجر التاريخ، وهو أول مؤذن حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وكلما حانت الصلاة قام بلال يهتف: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر.
فتنتفض أجسام المؤمنين من صوت بلال كما تنتفض الأجسام من التيار الكهربائي.
المؤذن كلما اهتم الرسول عليه الصلاة والسلام وأصابه كرب، قال: {أرحنا بها يا بلال!} فيؤذن، كان يتقدم أمام الرسول عليه الصلاة والسلام بماء الوضوء والعنزة، وكان يأخذ حذاء الرسول بيده، ويرى أنها أشرف خدمة يقدمها في تاريخه.
يجلس عليه الصلاة والسلام فيقول: أين بلال؟
كان يحبه، وهو الحب الذي سرى في جسم بلال وعوضه عن كل شيء، عن جاهه ونسبه وماله، فما دام أن الرسول عليه الصلاة والسلام يحبه فكفى.