[الأمر بهجر المتخلفين]
كان أول مرسوم اتخذه صلى الله عليه وسلم تجاههم؛ ألا يكلمهم الناس ولا يبايعونهم ولا يشارونهم، ولا يواصونهم، مقاطعة وحضر عام، انظر ما أعظم المصيبة والكارثة! إنسان يعيش في المدينة بين المهاجرين والأنصار، بين الأطفال والأحبة، يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والسادات والأجلة، وبين عشية وضحاها يؤمر هؤلاء جميعاً ألا يكلمه حتى القرابة، إخوانه ممنوعون من الكلام، والسلام، والزيارة، والمواصلة، مقاطعة في ذات الله عز وجل، هؤلاء عصاة، ولذلك يبوب البخاري باب: مجافاة أهل المعصية، فوقفوا في بيوتهم وكما وصفهم الله تعالى بقوله: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة:١١٨] يقول كعب بن مالك: والله إن الأرض التي كنت أراها ما كانت الأرض التي أعرفها، النخل ليس بالنخل.
ولذلك الحزن والمصائب تغير الأنظار، وتجدد تغير الطبيعة في عينك إذا أصابتك كارثة، قال: فقاطعنا الناس، نسلم فلا يردون ولا يسلمون علينا، ونبتاع فلا يبيعون، يأتي إلى الرجل في السوق يقول: أريد هذا السمن فلا يكلمه الرجل، يحمل السمن يسحب السمن من يده؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا قال كلمة معنى ذلك أن الدنيا سوف تتوقف وتصغي.
وكعب بن مالك بن زهير الشاعر هجا الرسول عليه الصلاة والسلام بثلاثة أبيات أو أربعة، فقال عليه الصلاة والسلام لقبائل العرب: {من وجد منكم كعب بن مالك بن زهير فليقتله} فأصبح يمشي في الليل، وينام في النهار، ضاقت عليه الدنيا أين يذهب؟ لا كهف يأوي إليه ولا قبيلة تنصره، كل القبائل ممنوع أن تحمي هذا الرجل.
وفي الأخير نظم قصيدة، ودخل على أبي بكر في بيته قال: يا أبا بكر! ضاقت عليّ الدنيا بما رحبت، وأخرج أصابعه حتى أظفاره لم يقلمها، وأراه جوعه وهزاله ومرضه وضعفه، فماذا ترى؟ قال أبو بكر وكان رجلاً حصيفاً عاقلاً- أعندك أبيات؟ والعرب كانت تتوسل بالأبيات في العظماء.
قال: نعم.
قال: إذا صلى الرسول صلى الله عليه وسلم الفجر فألقها عليه، فصلى الرسول صلى الله عليه وسلم الفجر، فتقدم كعب، فأتى بتلك القصيدة كأنها انتزعت من قلبه.
يقول:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
إلى أن يقول:
نُبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
انظر ما أحسن الكلام:
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب ولو كثرت في الأقاويل
ثم وصف حالته في الصحراء يقول:
لقد أقوم مقاماً لو يقوم به يرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لأن قلب الفيل مثل الحجر يقول: من خوفك وتهديدك لي والله لو كان الفيل مكاني لانهار الفيل فكيف بي أنا، حتى قال:
حتى وضعت يميني ما أنازعها في كف ذي نقمات قيله القيل
فالمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال قولاً انتهى الأمر، ويأتي كعب بن مالك، يسلم على أقاربه فلا يسلمون عليه ولا يكلمونه، وأصبح في عزلة، وفي الأخير قال: تسورت الحائط على ابن عمي أبي قتادة، أبو قتادة ابن عمه، فارس الإسلام، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الباب مغلق، لو طرق الباب لا يفتح أبو قتادة يقول: من؟ قال: كعب بن مالك، قال: لا.
في الأخير اقتحم المنزل من على السور، قال: فلما تسورت عليه الدار دخلت عليه، وقلت: يا بن عمي! هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: فما أجابني، قلت: أسألك بالله أتعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: فما أجابني، قلت: أسألك بالله أتعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: الله ورسوله أعلم.
حتى الجواب ضعيف، ولم يأتِ إلا في آخر لحظة، وليس جواباً شافياً، قال: فدمعت عيناي وتسورت الحائط وعدت.