للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أحوال السلف في البكاء من خشية الله]

السؤال

كيف نوفِّق بين ما ذكر في الدرس من أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه كان إذا قرأ لا تسمع قراءته من كثرة البكاء، وبين الأوزاعي الذي كان لا يبكي أمام الناس، فإذا خلا بنفسه بكى حتى يَرثِِي له الجيران؟

الجواب

هذا ثابت في الصحيح من حديث عائشة: {كان أبو بكر رجلاً أسيفاً -وفي لفظ: حزيناً، وفي لفظ: رقيقاً-} وورد في كتاب الزهد للإمام أحمد بسند جيد: [[أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه دخل مزرعة رجل من الأنصار فرأى طائراً يطير من شجرة إلى شجرة، وهو خليفة، فبكى حتى جلس، فقال له الصحابة: ما لك يا خليفة رسول الله؟ قال: أبكي من هذا الطائر، يرد الماء، ويأكل الشجر، ثم يموت، فلا حساب ولا عذاب، ثم قال: يا ليتني كنت طائراً!]] فبكى الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا معلوم.

وفي مسند الإمام أحمد -وأول مسند فيه أبو بكر - في الصفحات: الأولى، والثالثة، والرابعة: أنه وقف على المنبر فبكى، ثم رفع رأسه وقال: [[أيها الناس! وقف صلى الله عليه وسلم موقفي هذا، ثم بكى ونكس رأسه، ثم رفع رأسه، ثم قال: أيها الناس! نسأل الله العفو والعافية]] فعُلم أن أبا بكر لا يمتلك عينيه رضي الله عنه، طبيعته هكذا، وإيمانه، واتصاله بالله جعله لا يملك عينيه أبداً، بل ربما كان في حياته يقولون: [[إذا ذكر صلى الله عليه وسلم دمعت عيناه على لحيته رضي الله عنه وأرضاه]].

وأما الأوزاعي فأورد ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة الأوزاعي، وأورد الذهبي، صاحب سير أعلام النبلاء: أنه كان لا يبكي أمام الناس، وإذا خلا أغلق على نفسه بابه وبكى طويلاً حتى يَرثِي له جيرانه، من خشية الله عز وجل.

ويوفق بينهم أن الأوزاعي استطاع أن يملك شعوره وجوارحه, وأن يملك عواطفه فاستطاع ألا يبكي، أما أبو بكر فما استطاع، يقول المتنبي:

إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكَى

فهذا استطاع، وذاك لم يستطع، فرضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً.

<<  <  ج:
ص:  >  >>