للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الأوزاعي]

الأوزاعي الإمام العظيم لما سئل عنه بعض أهل العلم قال: لا يسأل عن مثله، ريحانة أهل الشام.

قيل: رئي في المنام أن نجماً هوى من السماء، فقيل لبعض العلماء: ما تأويل ذلك؟ قال: إن صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعي.

وسألوا أحد تابعي التابعين، قال: رأيت ريحانة قطعت من الأرض وارتفعت إلى السماء، قال: الأوزاعي يموت.

كان الأوزاعي يسكن في الأوزاع في حارة من حارات بيروت عاصمة لبنان وهي ما زالت إلى الآن تسمى بالأوزاعي.

أتى عبد الله بن علي عم السفاح وعم أبي جعفر ففتح دمشق وقتل من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر اثنين وثلاثين ألف مسلم يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون الصلوات الخمس، سفك دماءهم حتى جرت السكك بالدماء، وأدخل بغاله وخيوله مسجد بني أمية ثم جلس في المسجد، وقال: من يعارضني؟ قال له وزراؤه لا يعارضك أحد، قال: هل تعلمون أحداً يمكن أن يقول لي: لا؟ قالوا: إن كان أحد يقول لك لا فـ الأوزاعي قال: عليَّ بـ الأوزاعي.

فلما ذهبوا إلى الأوزاعي قام عبد الله بن علي فدخل قصره، وقال لجنوده: صفوا صفين، واحملوا السيوف معكم حتى نرهب الأوزاعي المحدث العالم، علَّه أن يتخاذل في كلامه معنا.

ذهبوا إلى الأوزاعي فقالوا: يريدك عبد الله بن علي عم السفاح قال: الله المستعان! انتظروني قليلاً، فذهب فاغتسل، ولبس أكفانه من تحت الثياب، ما معنى لبس الأكفان؟

خطر ممنوع الاقتراب، معناه: أنه سيقول كل ما في رأسه، فليغضب من يغضب، وليرض من يرضى، لبس أكفانه وثيابه، وأتى معه عصا يتوكأ عليها وهو في الستين، بينه وبين القبر قاب قوسين أو أدنى! ماذا يريد بعد الستين؟ يقول سفيان الثوري: [[من بلغ منكم الستين فليأخذ كفناً له وليبع الدنيا بلا شيء]].

قال: فدخلت عليه وفي يد عبد الله بن علي خيزران، وقد غضب وعلى جبينه عرق من الغضب، قال: من أنت؟

قال: أنا الأوزاعي.

قال: ما رأيك في الدماء التي سفكناها؟

قال: لا يجوز لك ولا يحل لك، حدثني فلان -حتى السند يحفظه- عن فلان عن فلان.

عن جدك ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة}.

فنكت بالخيزران في الأرض وحوله الوزراء، فرأيتهم يتقبضون ثيابهم خوفاً من دمي لا يرش ثيابهم، والأوزاعي أخذ يرفع عمامته يتهيأ لضربة السيف كي لا يتلكأ السيف في العمامة.

قال: فرفع طرفه، وقال: والأموال التي أكلناها.

قال: قلت له: إن كان حلالاً فحساب، وإن كانت حراماً فعقاب.

قال: خذ من أموالنا ما شئت.

قلت: لا أريد أموالك.

قال: فسلم لي بدرة -البدرة كالكيس فيه مال- قال: فوزعتها على الجنود وهو يراني، حتى بقي كيس النقود فرميت به عند أرجله، قال: فغضب غضباً ما غضب مثله أبداً، وانتظرت متى يضرب السيف.

ثم قال لي: اخرج، فخرج والناس عند الباب، فقالوا: كيف نجاك الله يا أوزاعي؟

قال: والله الذي لا إله إلا هو لما دخلت عليه تصورته على كرسيه كالذباب، والله ما تذكرت إلا الله بارزاً على كرسيه يوم العرض الأكبر.

سبحان الله! لأن من يقدر الله يهون عليه كل شيء.

دخل ابن تيمية الإسكندرية فاجتمع غلاة الصوفية والمبتدعة يريدون قتله، قال الناس: يـ ابن تيمية يريد هؤلاء أن يقتلوك؟ قال: كأنهم والله الذباب عندي.

ابن أبي ذئب المحدث الكبير، جلس يدرس في مسجد الرسول عليه الصلاة السلام، فدخل المهدي بن أبي جعفر المنصور وقد كان خليفة، فقام أهل المسجد جميعاً إلا ابن أبي ذئب لم يقم، قال: لماذا لا تقوم يـ ابن أبي ذئب؟

قال: والله لقد كدت أقوم لك لكني تذكرت قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٦] فتركت القيام لذاك اليوم، قال: اجلس، والله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت.

والشاهد من هذا: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة، ولكن ليس من يسمع الفريضة أن يبدأ بها كما قال الأول:

أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل

إنما له ضوابط وحدود وآداب، فلنستمع إلى ذلك.

<<  <  ج:
ص:  >  >>