[الاستهزاء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم]
جلس الرسول عليه الصلاة والسلام مع أصحابه في المسجد يعلمهم ويربيهم ويزكيهم، وانطلق من الجلوس شاب صغير في السادسة عشرة من عمره، اسمه عمير بن سعد، مُلئ حكمة وإيماناً، ودخل على عمه وهو شيخ كبير في الستين من عمره، ولكن النفاق في قلبه كالجبال، يصلي مع الناس في المسجد، ولكنه مكذب بالرسالة والرسول.
قال له عمير بن سعد: يا عماه! سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن الساعة حتى كأني أراها رأي العين.
فقال الجلاس بن سويد -وهو عمه-: يا عمير! والله إن كان محمد صادقاً فنحن شر من الحمير.
فامتقع وجه عمير بن سعد، واهتز جسمه وانتفض كيانه؛ فقال: يا عم! ووالله إنك كنت عندي من أحب الناس، ووالله لقد أصبحت اليوم من أبغضهم إلى قلبي، يا عم! أنا بين اثنتين: إما أن أخون الله ورسوله فلا أخبر الرسول، وإما أن أقطع علاقتي بك وليكن ما يكن، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت.
ما معنى هذه الكلمة؟ معناها الكفر بلا إله إلا الله، والاعتراض على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال الجلاس بن سويد: أنت طفل غرّ لا يصدقك الناس فقل ما شئت.
فذهب عمير وجلس أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: {يا رسول الله! إن عمي الجلاس بن سويد خان الله ورسوله، وقد تبرأت إلى الله ثم إليك منه، فلا علاقة لي به.
قال: ماذا قال؟ قال: يقول: إن كنت أنت صادقاً فهم شر من الحمير.
فجمع الرسول عليه الصلاة والسلام الصحابة واستشارهم في هذا الكلام، فقالوا: يا رسول الله! إن هذا طفل لا تصدقه، وليس بواع، وهو ينقل الكلام وشاية، والجلاس بن سويد يصلي معنا، وهو شيخ كبير وعاقل.
فسكت عليه الصلاة والسلام ولم يصدق هذا الشاب.
وسالت دموع الشاب، وانتفض جسمه، والتفت إلى السماء حيث القدرة وعلم الغيب، وحيث الذي يعلم السر وأخفى، وقال: اللهم إن كنت صادقاً فصدقني، وإن كنت كاذباً فكذبني.
فوالله ما غادر مجلسه وما قام من المسجد إلا وجبريل يهبط من فوق سبع سموات بالوحي المقدس {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [التوبة:٧٤]
واستدعى الرسول صلى الله عليه وسلم الجلاس، وسأله عن الكلمة فحلف بالله ما قالها، فقال عليه الصلاة والسلام: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة:٧٤] أما أنت يا جلاس فقد كفرت بالله، فاستأنف توبتك؛ لأن الله يقول: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ} [التوبة:٧٤] واستدعى الرسول صلى الله عليه وسلم عمير بن سعد وفرك أذنه وقال: مرحباً بالذي صدقه ربه}.
ماذا يستفاد من هذا؟ يستفاد أن هناك معسكراً يستمر مع الصالحين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يلغ هذا المعسكر في أعراض الصالحين كما تلغ الكلاب في الماء، ولا بد: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:٣١].
يقول المتنبي:
كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم ويكره الله ما تأتون والكرم
ما أبعد العيب والنقصان عن ملأٍ هم الثريا وذان الشيب والهرم
ومعنى ذلك: أن المستقيمين على أمر الله، والطائعين لله، والخائفين منه من شباب الصحوة ودعاتها وعلماء الأمة وصالحيها، والذين يحملون سنته عليه الصلاة والسلام يواجهون بحرب دعائية مفتعلة لا هوادة فيها، فهم يوصفون بالتطرف والتزمُّت، وقلة العقل، والتشديد والتنفير والتحريم، وتكليف الناس بما لا يطاق، إلى غير ذلك من العبارات، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:٥].
إن أتباع محمد عليه الصلاة والسلام لم يسرقوا أراضي الناس بالغصب والقوة إن أتباع محمد عليه الصلاة والسلام لم يضايقوا الناس في أرزاقهم إن أتباع محمد عليه الصلاة والسلام لم يعطلوا مصالح الناس، ولم يستهزئوا بالفقراء، ولم يقفوا حجر عثرة في طريق المستضعفين: إنهم هم الذين يبينون الظلم ويكشفون أوراقه، ويقولون للظالم: اتقِ الله يا ظالم، ويقفون مع الفقراء والمستضعفين والمستذلين حتى يأخذوا حقهم الشرعي الذي أحقه الله لهم.
ولكن مع هذا كله! هناك صنف لا يعجبه هذا، يلحق الوشاية بحملة الشريعة، من القضاة، وأهل التمييز، والعلماء، وديوان المظالم، وكتاب العدل، ونجوم الدعوة، وحملة السنة، وأساتذة الجامعات والمربين كل هؤلاء يريد أولئك أن تسقط عدالتهم في الأمة؛ لأنهم يحمون دين الرسول عليه الصلاة والسلام، ويبلغونه غضاً طرياً للأمة.
فحذار من أولئك، وحذار من الإنصات إليهم.
وقد كشف الله أوراقهم، فما رأيناهم إلا لاغين، لاهين، طربين، عابثين، مسرفين، أسرفوا في الأموال وضيعوها، ولعبوا بالأوقات وأنفقوها، وتهتكوا في الأعراض ومزقوها، فكلما نصحتهم وصفوك بأنك عنيد جاف غليظ متزمت.
حملة الشريعة يقومون في الثلث الأخير من الليل، ويحفظون كتاب الله في حين تجد أولئك يسهرون على اللعب المحرمة، وعلى الأعراض المشوهة، يمزقون أعراض المسلمين، فدخلهم حرام، وكلامهم حرام، وليلهم حرام، ونهارهم حرام، ومع ذلك لا يحرص أحدهم على أن يتعلم سنة محمد عليه الصلاة والسلام، فتجده في واد والسنة في واد آخر.
قام نفر في عهده عليه الصلاة والسلام في تبوك فاتهموا الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه بأنهم جبناء لا يستطيعون المواجهة، وأنهم يأكلون كثيراً، فاستدعاهم عليه الصلاة والسلام في صباح اليوم التالي، فسألهم وحجهم، فقالوا: يا رسول الله! معذرة، إنما كنا نخوض ونلعب.
فأنزل الله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ.
لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:٦٦] والمعنى: أنهم خرجوا من الملة بكلمة واحدة قالوها في عرض الرسول عليه الصلاة والسلام وفي عرض أصحابه.