[سبب خوف النساء من عمر]
ونعود إلى قصة عمر، قال: بأبي أنت وأمي، والشاهد أنه صلى الله عليه وسلم فدى بعض أصحابه بهذا، فقال: {عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب} أي: أنه صلى الله عليه وسلم يضحك ويعجب من هؤلاء النساء، وهن ناقصات عقل ودين، أشرف الخلق وأجل البشر صلى الله عليه وسلم جالس، فلما أتى رجلٌ من رعيته وطالب من طلابه فررن، وهذا ليس من وضع الأمور في مواضعها، فقال عمر -انظر الحصيف العاقل لو كان غيره لسكت، وقال في نفسه: هيبة مني لمكانتي، ولشخصيتي الكبرى، ولعظمتي، لكنه تواضع وأرخص نفسه أمام الغالي عليه الصلاة والسلام- فقال: {أنت أحق أن يهبنك يا رسول الله! ثم أقبل عليهن وقال: يا عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم}.
فقالت امرأة منهن عاقلة: إنك أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأفظ وأغلظ -هنا- ليست للمفاضلة، فليس المعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فظاظة وغلظة، لكن عمر أغلظ, لا.
بل هي من باب {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:٨] ليس هناك حاكم والله أحكم منه، فليست للمفاضلة، إنما وردت هكذا.
فمعناها: إنك فظ غليظ، لأنها لو كانت للمفاضلة لكان هناك قدر ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وينسب إلى عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إيه يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك}.
وإيه: تستخدم على صور:
منها: متى أردت أن يسترسل المخاطب في الحديث الذي يتكلم فيه، فتقول: إيه, أي: زد زد
وإيهٍ: إعجاب بهذا الشخص، يقول: أنت البطل الذي لا مثله أحد.
ففي صحيح مسلم عن عمرو بن الشريد قال: كنت ردف الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال لي: {أتحفظ شيئاً من شعر أمية بن الصلت، قلت: نعم، قال: أنشدني، قال: فأنشدته بيتاً، فقال: إيه، فأنشدته بيتاً، فقال: إيه، فأنشدته ثالثاً، فقال: إيه، فأخذ يقول: إيه، حتى أنشدته مائة قافية، ثم قال صلى الله عليه وسلم: آمن لسانه وكفر قلبه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فيقول لـ عمر: إيه، أي: ما أعجبك وما أحسنك! وهكذا كن يا ابن الخطاب! استمر على هذا المنوال, من القوة والعظمة.
انظر إلى المربي العظيم، لم يحسده عليه الصلاة والسلام لأن له هيبة، إنما أراد أن يوجهه؛ لأنه في ميزان حسناته، وهو من مدرسته، ومن خريجي صرحه العظيم عليه الصلاة والسلام {والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك} وورد في الآثار بأسانيد تقبل التحسين: أن عمر رضي الله عنه وجد عفريتاً من الجن واقفاً؛ فقال عمر: من أنت؟ قال: أنا عفريتٌ من الجن، قال عمر: تصارعني، قال: نعم.
فصرع عمر رضي الله عنه العفريت في الأرض، وألصقه بها، فقام الجني مرة ثانية فصرعه، فقام ثالثة فصرعه وبرك على صدره، فقال العفريت: لقد علمت الجن أني من أقواهم، فكيف بالضعاف! ففر، وفي الأخير أخبرهم خبراً، وأعلن لهم إعلاناً طارئاً ممنوع الاقتراب من عمر رضي الله عنه وأرضاه.
قال بعض أهل العلم من الشراح: إنما ذلك لقوة إخلاصه ولصدقه مع الله عز وجل، ولتجلي قلبه لما يرد عليه من الوضوح جعل الله فيه قوة، فهو من أعظم الناس إيماناً، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {عرض الناس علي في المنام وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها مادون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره.
قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين} فدينه بلغ الغاية، وكان محدَّثاً، أي: ملهماً من الله عز وجل، يتكلم بشيء فيقع كما قال, وترجمته في غير هذا المكان.