للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نماذج من إجاباته صلى الله عليه وسلم على الأسئلة]

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أمَّا بَعْد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

روى البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: {كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فقال: يا رسول الله! هلكت، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على أهلي في رمضان فقال عليه الصلاة السلام: أتجد ما تعتق به رقبة؟ قال: لا يا رسول الله! قال: أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا يا رسول الله، قال: أتجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا يا رسول الله -يعني كلها لا يستطيع- ثم جلس رضي الله عنه وأرضاه فأوتي صلى الله عليه وسلم بعرق -أي: بمكتل فيه تمر- فقال: قم فخذ هذا فتصدق به، قال: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟! والله ما بين لا بتيها -يعني حرة المدينة - أهل بيت أفقر من بيتي فقال صلى الله عليه وسلم فخذ هذا العرق -أو المكتل- فأخذه، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه} روى هذا السبعة واللفظ هذا لـ مسلم رحمه الله رحمة واسعة.

هذا الحديث سوف يأتي فيه قضايا، ولكن هذا الحديث من المجالس العامرة التي عاشها صلى الله عليه وسلم يوم عاش موجهاً للأمة ومعلماً لها عليه الصلاة السلام طيلة حياته حياة الرسالة، فبعد أن أرسله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بعد الأربعين كان يقف مفتياً ومعلماً، وهو مستعد لأي إجابة أو طلب إجابة من أي سؤال يصدر، سأله اليهود -كما سوف نعرض نموذجاً لذلك- والنصارى والمشركون والنساء والأطفال والأعراب، فكان عليه الصلاة السلام يجيب الجميع وهو متهيئ في مجلسه ليستقبل كل إنسان ويجيبه بكل ما يرد من سؤال، يجلس معه الصحابة الأخيار من المهاجرين والأنصار، ويجلس معه المشركون والمنافقون، واليهود والنصارى، والنساء والأطفال.

أما المشركون: فإنهم أكثروا من الأسئلة على الرسول عليه الصلاة السلام، ودخلوا مرات عديدة في مجلسه فما كان يعبس في وجوههم، بل يستقبلهم صلى الله عليه وسلم باللين؛ عل الله أن يهديهم.

دخل العاص بن وائل على الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد كان مشركاً رعديداً، يقول الله فيه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:٧٨] دخل بعظم بيده فقال: يا محمد أتزعم أن ربك يحي هذا بعد أن يميته أو يرده حياً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {نعم ويدخلك النار} ففتت العظم ثم نفخه أمام الرسول عليه الصلاة السلام، فكان الرد من السماء قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:٧٨] بعد أن كبر، وترعرع، واشتد ساعده؛ نسي خلقه ونسي صورته، ونسي من خلقه ورزقه، ثم انظر كيف التفت إليه بالغيبة فقال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} [يس:٧٨].

أتى اليهود في مجلسه صلى الله عليه وسلم، فعرضوا له عشرات الأسئلة، منها ما يجيب عنه في الحال، ومنها ما يطلب وقتاً من الزمن حتى يأتيه الوحي من السماء، يقول ابن مسعود: {كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده عسيب من نخل قال: فمررنا على يهود فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الروح، فتوقف قليلاً ثم طلب منهم وقتاً ليخبرهم في هذا الوقت، فلما نزل عليه جبريل بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلا}) [الإسراء:٨٥]} وسألوه عن عدد أهل الكهف، فطلب منهم مهلة يوم، فأتى جبريل عليه السلام فأخبره، فأخبرهم بالخبر فوجدوه مكتوباً عندهم في التوراة.

وأتى ابن سلام {فسأله عن ثلاث: عن أول علامات الساعة، وعن أول ما يأكل أهل الجنة، وعن علامة الطفل يوم يشبه أباه أو يشبه أمه، فأخبره وقال: أخبرني بذاك جبريل آنفاً، فقال ابن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله والله لا يعلم ذلك إلا نبي}.

وأتى النصارى في مجلسه عليه الصلاة السلام -نصارى نجران: - {فسألوه عن مريم وابنها عليهما السلام؟ فأخبرهم صلى الله عليه وسلم بذلك، فكأنهم لم يقتنعوا فدعا أهله وقال: تعالوا نبتهل أنا وإياكم -أي يدعو بعضنا على بعض باللعنة- فنجعل لعنة الله على الكاذبين} فما استطاعوا أن يباهلوه.

وجاء المنافقون وقالوا: نشهد إنك لرسول الله، فأخبره الله أنهم كاذبون وأنهم أظهروا ما لم يبطنوا.

وجاء الأعراب إليه صلى الله عليه وسلم وله معهم صولات وجولات؛ لأن الأعراب أقل الناس أدباً؛ ولأنهم لم يتعلموا الأدب، وفي أثر يقول صلى الله عليه وسلم: {من بدا جفا} أي: ليس عنده أدب، فأتى رجل منهم فقال: {يا رسول الله! أسمع بالدجال فما الدجال هذا؟ قال عليه الصلاة السلام: ضال مضل، يخرج وعنده جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار، وعنده خبز وثريد يقدمه للناس؛ يستغوي الناس به، أو كما قال عليه الصلاة السلام، فقال الأعرابي: والله يا رسول الله لأضربن في ثريده حتى أشبع، ثم أقول له آمنت بالله وكفرت بك، يظن أن المسألة على الفكر، وعلى الرأي فتبسم عليه الصلاة السلام ولم يقل شيئاً}.

{وجاءه أعرابي آخر -كما في الصحيحين - فصلى معه في الصف الأول، بجانب أبي بكر وعمر فلما انتهوا إلى التحيات قال في آخرها: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم عليه الصلاة والسلام سأل: من قال هذا الكلام؟ قال: أنا يا رسول الله! ولم أرد إلا الخير قال: لقد حجرت واسعاً -أي: ضيقت رحمة الله التي وسعت كل شيء- ثم لم يلبث هذا الرجل أن ذهب في طرف المسجد وأراق الماء -بال- فقام الصحابة ليضربوه وليطرحوه الأرض فقال صلى الله عليه وسلم: دعوه ثم أتي بذنوب من ماء فصب على بوله} في قصة طويلة فرضي هذا الأعرابي وأصبح داعية من دعاة الإسلام.

وكانت النساء يسألنه صلى الله عليه وسلم في أقل شئونهن وهي مسائل الطهر والحيض، وفي أكبرهن وهي الحياة مع الله عز وجل، ثم الحياة مع الزوج، فكان يفتي ولا يتلعثم عليه الصلاة السلام، فهو للطفل أب عليه الصلاة والسلام، وللشاب أخ، للكبير ابن وأوسع الناس خلقاً، وأوسع الأمة علماً، قادها إلى بر الأمان، هو المجاهد، والقائد، والداعية، والإداري، والمربي، والمفتي، والخطيب، ورب الأسرة، ولذلك كانت حياته عظيمة أبهرت العقول؛ حتى يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال كلاماً ما معناه في سورة التحريم: إنك أمام نبي تبهرك طلائعه، إنه قوي الإحساس، حي العاطفة، متوقد الذهن، يملأ ساعات حياته بالجد والعمل فعليه أفضل الصلاة السلام.

<<  <  ج:
ص:  >  >>