[السجع محموده ومذمومه]
الأمر الثاني: السجع.
والسجع هو: اتفاق أواخر الكلم على حرف، مثل: {إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات} على التاء ثلاث مرات، ثم قال: {وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال} وهنا على اللام.
وفي هذه القضية مبحث، حيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من الأعراب فقال: {يا رسول الله! كيف تدي من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل} فالأعرابي سجع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ودى جنيناً، حيث ضربت امرأةٌ امرأةً حاملاً فأسقطت جنينها من بطنها، فأمر صلى الله عليه وسلم في هذا الحمل بدية جنين، فأتى شيخ القبيلة يعترض، ويقول: {كيف تدي من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل، فقال صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الكهان؟} فهنا غضب صلى الله عليه وسلم وقال: كيف تسجع مثل سجع الكهان.
فيقول أهل العلم: كيف غضب عليه الصلاة والسلام، بينما قد ورد عنه أنه سجع.
والقرآن فيه سجعٌ كثير: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً * فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً} [الذاريات:١ - ٣] وهذا سجع.
ومسيلمة الكذاب عليه لعنة الله، عندما أتى يقول في قرآنه المخرف، الذي أوحاه له الشيطان الرجيم -وقد وذكره ابن كثير في البداية وغيره- يقول: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً يعارض بذلك سورة الذاريات، وأتى بكلام كثير، يقول: يا ضفدع بين الضفدعين، نقنقي ما تنقنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين فهذا سجع، وقد كذبه المؤمنون ولعنوه.
فما الفرق بين السجع المحمود والسجع الذي ذمه عليه الصلاة والسلام؟ يقول بعض الفضلاء: الفرق في أمور:
أولاً: ذاك تكلف والرسول عليه الصلاة والسلام ما تكلف، بل أتى سجية هكذا، مثل الهواء والماء البارد، فتكلم به فأتى على لسانه، وأما العربي فإنه تكلف، ففكر فيها ساعات ونظمها، وقد قال عمر كما في صحيح البخاري في كتاب الأدب: [[نهينا عن التكلف]] ولذلك ينهى الأئمة في دعاء الوتر أن يتكلفوا في الدعاء، فبعضهم يبقى أربعين دقيقة يدعو بالناس في القنوت أو أكثر، ويبكي ويُبكي الناس في القنوت وهو لم يبك في القرآن، يمر بسورة يوسف التي تبكي الحصى والحجارة، التي كان أبو بكر لا يقرؤها إلا ويبكي، ويبكي المسجد معه، فلا تجد الإمام يهتز عندها ولا يهتز المصلون، ويمر بسورة طه، وق، والحجرات، فلا يتأثر، فإذا أتى في الوتر أتى بسجع متكلف، ويقول: اللهم انقلنا من ظلمة اللحود التي فيها الدود، إلى سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود ويبقى على الدال نصف ساعة، وهذا التكلف وتطلب السجع في الكلام منهي عنه، حتى وجد أن بعض الأئمة يتحفظ دعاء التراويح من قبل رمضان، فيكتبه في أوراق ويحفظه، والمسألة سهلة، لماذا لا يدعو بجوامع الكلم: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، فالدين ليس فيه تكلف.
وهناك مادة في علم النفس يسمونها: التكلف، وبعضهم بتكلف حتى في الصوت، وقد سبق في بعض المناسبات أن الأمريكي دايل كارنيجي في كتاب: دع القلق وابدأ الحياة، يقول: لا تتقمص شخصية غيرك، ويقول: أنت خلقك الله شخصية مستقلة، لا تتقمص شخصية غيرك، لكن هنا أحسن، وأروع وأجود من هذا الكلام قول الرسول عليه الصلاة والسلام عند الترمذي، ولو أن في سنده نظر: {لا يكن أحدكم إمعة} أي: لا تلغي شخصيتك وتذوب، وبعض الناس من الشباب يعجب بعالم فيقلده حتى في سعاله ونحنحته، مع أنه قد خلق الله له سعالاً خاصاً، لكنه يسعل مثل سعال الشيخ، ويبكي مثل بكاء الشيخ، ويمشي مثل مشية الشيخ، وهذا تقليد مذموم.
والممدوح من التقليد أن تقلد الشيخ في الكرم والعلم والصبر والحلم، أما أن تقلده في هذه الحركات الظاهرة فهذه سذاجة وبرود، وهذا شيء ثقيل على النفس ولا يصلح.
وأعود إلى الموضوع فأقول: السجع في كلام الأعرابي جاء متكلفاً، وكلامه عليه الصلاة والسلام هنا بغير تكلف.
الأمر الثاني: أن سجع ذاك الرجل الذي ذمه عليه الصلاة والسلام أتى لغرس الباطل وصرف الحق، فالرسول عليه الصلاة والسلام أنكر عليه ذلك، ورفض عليه الصلاة والسلام هذا المبدأ؛ لأنه لا يصح، حيث أنه أتى لفرض الباطل ونسف الحق.