[عفو الرسول صلى الله عليه وسلم]
أما قضية الانتقام الشخصي وقضية أن يقوم الإنسان ويغضب لنفسه فليست عنده صلى الله عليه وسلم، فأتى ابنه الصالح الناصح عبد الله بن عبد الله بن أُبي فقال: {يا رسول الله! سمعت أنك تريد قتل أبي، فإنك إن أرسلت رجلاً ليقتل أبي، والله لا تطمئن نفسي أن أرى قاتل أبي يمشي على وجه الأرض حتى أقتله، لكن يا رسول الله! ائذن لي أن أذهب الآن وآتيك برأسه، والله -يا رسول الله- إن شئت لأقتلنه، فإنك الأعز وهو الأذل}.
انظر إلى الإسلام كيف فصل بين الولد وأبيه الذي هو من صلبه ودمه وعروقه، بلا إله إلا الله محمد رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: {بل نصبر على أبيك ونحسن صحبته ما بقي معنا} فهذه هي الحياة وهي الدعوة وهو المنهج الرباني حتى يقول له ربه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩] ويقول له الله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤].
فيأتي الناس ويعودون من الغزوة، فيأتي ابنه عبد الله فيسل السيف في مضيق عند مدخل المدينة فدخلت الكتائب المقدسة، وجيوشه عليه الصلاة والسلام وأصحابه ومحبوه، وأتى عبد الله بن أبي على فرس فاعترضه ابنه بالسيف أمام وجهه، وقال: [[والذي لا إله إلا هو! لا تدخل المدينة حتى يأذن لك الرسول صلى الله عليه وسلم فإنك الأذل وهو الأعز]] فذهب رسول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره، قال: أذنت له فدخل.
ومع ذلك عندما مات هذا الشقي يأتي صلى الله عليه وسلم بقميصه فيكفن عبد الله بن أبي بن سلول به.
قال الناس: {ما لك يا رسول الله! كفنته بقميصك؟ قال: إنه أهدى قميصاً للعباس عمي، فأردت أن أكافئه بهذا القميص} وقام صلى الله عليه وسلم يريد أن يصلي عليه -وهو منافق- فوقف عمر أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه القبلة وجعل ظهره إلى الجنازة -أمام المعصوم صلى الله عليه وسلم وأمام المعلم الكبير، الذي لا ينطق عن الهوى والذي قوله حجة، وانظر كيف أحدنا يتقدم على عالم، فكيف تتصور أنك تقف أمام رسول الله يريد أن يكبر فتقول: لا.
ممنوع، لا تكبر- قال صلى الله عليه وسلم: تأخر يا عمر! يريد إما يميناً أو يساراً، قال: يا رسول الله! تصلي عليه وهو الذي فعل كذا يوم كذا وكذا؟ قال: يا عمر! اترك هذا، قال: يا رسول الله! تصلي عليه وقد قال كذا وكذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: {يا عمر! والذي نفسي بيده لو علمت أني لو استغفرت له أكثر من سبعين مرة لغفر الله له لاستغفرت له} لأن الله يقول: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:٨٠].
وهذا يسمى عند أهل التفسير (عدد لا مفهوم له) فلو كان العدد له مفهوم لكان استغفر صلى الله عليه وسلم إحدى وسبعين مرة، كما تقول (ألف مرحباً) فإنه عدد لا مفهوم له، أي: أكثر من ألف.
ثم دفنه صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل بالوحي: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:٨٤] أي: لا تصل على أحد منهم مرة ثانية ولا تدع لهم ولا تقف على قبره ولا تترحم ولا تستغفر له.
ويأتيه متخلفون من المنافقين الذي أساءوا وتركوا الغزوة وخالفوا أمره وعصوا الله، فيقول أحدهم: يا رسول الله! أنا مريض، قال: صدقت، وهو ليس مريض البدن بل مريض القلب! والثاني يقول: امرأتي مرضت في الغزوة، قال: صدقت، والثالث يقول: يا رسول الله فقير ما استطعت أن أشتري جملاً، قال: صدقت، فيقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:٤٣] فقوله: (عفا الله عنك) مقدمة قبل أن يلاحقه بالعتاب، لئلا يخاف: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:٤٣] من الذي فوضك وأذن لك أن تأذن لهم؟ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:٤٣].
فماذا أحدث عليه الصلاة والسلام بهذا الخلق؟ جمع القلوب بدعوته فأتاه الذين قتل آباءهم، وإخوانهم في الشرك، فيقول أحدهم: [[والذي لا إله إلا هو إنك أحب إليّ من نفسي]] وقال الثاني: [[والله ما ملأت عيني منه إجلالاً له، والله لو سألتموني أن أصفه ما استطعت أن أصفه لكم]].