[الجهاد والتضحية في عهد الصحابة]
كان صلى الله عليه وسلم يقول لأحد أصحابه وقد مات في تبوك: {اللهم إني أمسيت عنه راضياً فارض عنه} ولا يتصور أحد أن رضا الله أمر سهل، من أجل رضا الله سالت دماء الصحابة وهم يقطعون أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، أحدهم يأتيه السهم فيرفع يديه يتلقى السهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الثاني: يضربه الرمح فيمد يده، الثالث: تكسر جمجمته، الرابع: تذهب عينه وتنزل في الأرض، وكلهم يقول: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى:
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا
وقاتلت معنا الأملاك في أحد تحت العجاج فما حادوا وما انكشفوا
فأي جهد بذلناه؟! ماذا قدمنا لديننا؟! أنا أعلم أن فينا استقامة ظاهرية، والباطن خير إن شاء الله، لكن أيظن ظان أن من أطلق لحيته وقصر ثوبه وحمل سواكه واكتفى بالنوافل التعبدية القاصرة اللازمة لنفسه أنه سوف ينجو من المسئولية يوم العرض الأكبر؟! مسئولية أداء الكلمة وأمانة الرسالة وحمل الميثاق؟! أيظن أنه يعفى؟! كلا.
والصحابة قدموا جماجمهم وحملوا دين الله إلى قرطبة والحمراء والسند والهند وكابل وكل بلد من أصقاع الدنيا، يحملون الرماح والسيوف، وينامون الليالي الطوال لا يجد أحدهم كسرة الخبز، ثم يدفنون في الصحراء هنا وهناك.
قرأت قصة لـ عمر وقد أتته بشائر الجيش المنتصر مع الأحنف بن قيس، فوصلوا إلى المدينة فاستقبلهم بشغف، لكنه ما يسر جيوشاً كان يعرفها، قتلوا هناك:
بـ قندهار ومن تكتب منيته بـ قندهار يرجم دونه الخبرُ
خرجوا من المدينة إلى قندهار، بلا طائرة ولا سيارة ولا موكب ولا حشم، خرجوا على أقدامهم يحملون أرواحهم على أكفهم في سبيل الله، خرجوا فتركوا اللذائذ، خرجوا فتركوا الطعام، خرجوا فتركوا الشراب، خرجوا فتركوا البنات والأبناء، فلذات القلوب وشذا الأنفس، خرجوا وتركوها لله، ثم ذبحوا ودفنوا هناك، فقام عمر يعانق الجيش لكنه ما يسر البقية، فأخذ يبكي، القريب الراعي المشغول، قال: أين فلان؟ قالوا: قتل، فترحم عليه، وفلان: قتل، وفلان: قتل، قالوا: يا أمير المؤمنين! وقتل أناس لا نعرفهم، فبكى عمر وقال: [[لكن الله يعرفهم]]، إن لم تعرفوهم أنتم ولم يسجلوا في الدواوين ولم أر أسماءهم في الدفاتر فالله يعرفهم، الله يدري ويعلم من الذي يقتل في سبيله ويجاهد وينفق ويعطي.
ونحن والحمد لله في مؤسسة نافعة، أعضاؤها أهل الخير من الأطهار الأخيار الأبرار الذين يتوضئون لصلاة الفجر، وينحدرون في البرد القارس إلى المساجد، فيضعون جباههم، وأبشرهم أنها لا تخزى يوم العرض الأكبر!
فوالذي نفسي بيده لا نجعل أبداً رجلاً متمرداً جلس ونام على فراشه، وسمع الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثم أعرض وسكت وخنع على فراشه كرجل مسلم متوضئ متطهر، سمع حي على الصلاة، حي على الفلاح، فانتفض من فراشه.
وفي صحيح مسلم أن عائشة تقول: {كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع الصارخ وثب، قال الأسود: -راوي الحديث- وأنا أعلم ما تعني وثب} لم تقل: قام، ولم نقل: تحرك، بل وثب صلى الله عليه وسلم حتى يسقط فراشه أو لحافه وهو واقف.
والله لا نجعل هذا كهذا الذي يأتي إلى المسجد، فيصلي ويمرغ جبينه للواحد الأحد، هذه المؤسسة أعضاؤها الخيرون وهي مؤسسة محمد صلى الله عليه وسلم أعضاؤها مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزيد ومعاذ، فمن لم يكن على طريقتهم فليقدم الآن تنازله، ولا يدخل في هذه المؤسسة، وليعلم أنه سوف يندم في يوم من الأيام: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٨ - ٨٩].
يسمعني تاجر لعله يظن أنه بدرهمه ووسع بيته وبستانه سوف ينجو، لا.
وقد قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:٣٧].
إن الذي يقربكم زلفى عند الله: الإنفاق، بناء المساجد، الإصلاح، أن تدفع مالك سخياً للدعوة وللأمانة وللرسالة، وأن تكون متهيئاً في قبرك بمهاد أحسن من مهادك الذي مهدت في فلتك وفي قصرك، تذهب هناك لكنك تتركه هنا، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:٩٤] فلا أعطيات ولا سيارات ولا فلل ولا قصور.
وكلامي هذا لأستاذ يؤدي مادةً في فصل فيظن أن معنى ذلك: أن يتعاطى أعطية وأجراً في آخر الشهر، أو يقدم مادة سواء فهم الطلاب أم لم يفهموا، ونسي أنه داعية، وأنه خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الله سوف يسأله عن كلامه وعن عباراته وعن جمله، وهل أثر في الجيل والنشء الذي طرحناه أمامه وبين يديه؟!
وكلامي هذا لجندي استأمنه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وسهرت عينه لمصالح المسلمين، عسى عينه ألا تمسها النار! فيسأل نفسه: هل قمت بالجندية الإسلامية، وكنت حاملاً للا إله إلا الله محمد رسول الله؟ هل صدقت مع الله؟ هل كنت ساهراً في مرضاة الله؟ هل سهرت كما سهر سعد وعمار وعباد بن بشر؟ هل آمنت بهذه الكلمة الصادقة الحقة لا إله إلا الله؟
وكلامي كذلك لداعية أنفق جهده وساعاته في الدعوة إلى الله عز وجل، ألا يتعالى على الله ولا يتعزز ولا يمن على الله؛ فالفضل لله والعطاء من الله، والكلام والتوفيق والعلم منه سبحانه وتعالى فما لنا شيء: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:١٧] ويمنون عليك أن أنفقوا، ويمنون عليك أن جاهدوا، ويمنون عليك أن وعظوا وخطبوا، قل لا تمنوا علي خطبكم ولا وعظكم، ولا دراهمكم ولا أموالكم، المنة لله الواحد الأحد، هو الذي أعطى ووهب ثم امتحن الناس: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة:٤٨].
فالإتيان منه، والعطاء منه، والبذل منه، والخير منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فيا أيها الإخوة! لا نبخل بعطاء الله الذي أعطانا فنكون نحن من الخاسرين.