[خبث النفس]
قلت: إن أول أسباب الانحراف: خبث النفس، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:٢٣] يتحدث سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن قوم انحرفوا عن منهجه وضلوا، فيتساءل المتسائل لماذا رفضوا المسجد؟
ولماذا رفضوا القرآن؟
ولماذا أعرضوا عن الهداية؟
قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:٢٣] معنى الآية: لا خير فيهم، وفي رواية عن موسى عليه السلام: {أنه كلم الله، فقال: يا رب! تدخل الجنة قوماً وتدخل النار قوماً فلم؟ قال: يا موسى! ازرع زرعاً، فزرع زرعاً، قال: احصده، فلما اكتمل حصده، قال: يا موسى! لم تركت هذا؟ -أي: القصب بقية العلف- قال: لا خير فيه، قال: وأنا أترك في النار من لا خير فيه} {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:٢] أي: لا خير فيهم، ولا سداد، ولا زلفى إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وقال سبحانه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:٣٦].
قال أهل العلم: أي من صد عن منهج الله عز وجل قيض الله له قرين سوءٍِ يأخذه إلى الضلال، فمن ترك المسجد، أين تجده؟! أتظن أنه في الجنة؟! لا.
هو في المقهى!
من ترك المصحف فهو مع المجلة الخليعة، ومن ترك التلاوة فهو مع الأغنية الماجنة! {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:٣].
قيل للجعلان: لم نزلت إلى هذا المستوى؟
قال: همتي أنزلتني.
الجعلان هذا حيوان يعيش دائماً في القذارة، إذا خرج من القذارة مات، فما يعرف إلا القذارة، مثل الخفاش فإنه أول ما يرى الشمس يموت.
يقول أحد الشعراء في رجل من الناس يبتغي الغواية دائماً، يقول:
إذا أدلج الأخيار للفضل في الدجى سريت لزرع الشر في كل منزل
وإن غرسوا غرس الفضائل في العلا حصدت رخيصاً من قتاد وحنظل
والمعنى: أنت دائماً لا تحب الخير، الناس يسهرون مع كتاب الله، وأنت تسهر في الغواية -والعياذ بالله- والناس يتقربون من الله، وأنت تتقرب من الشيطان.
الناس يصونون ذممهم وأخلاقهم بأخلاق الإسلام، وأنت دائماً تنتكس في المعصية والغواية، وهما بيتان لطيفان، حبذا لطالب العلم أن يحفظهما.
يقول أحد الأدباء: دخلت على فلان، وكان ماجناً ضائعاً لا يعرف الحياة، فقال: كلما دخلت عليه وجدته يغني بعود، وعنده باطية خمر -والعياذ بالله- يشرب، ويدَّعي الإسلام وأظنه مسلماً، قال: وكلما دخلت على يزيد بن هارون وجدته يقرأ القرآن ويبكي -يخرج من بيت يزيد بن هارون المحدث الكبير فيقابل بيت هذا المجرم- قال: وكلما دخلت على هذا وجدته يغني ويشرب الخمر، وأدخل على يزيد، وهو جاره، فأجده يقرأ القرآن ويبكي.
يزيد بن هارون: عالم زاهد من العباد الكبار، بكى من خشية الله حتى عمي.
قال له أحد تلاميذه: أين العينان الجميلتان يا يزيد بن هارون؟
قال: أذهبهما والله بكاء الأسحار، لكنها عند الحي القيوم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: {من ابتليته بحبيبتيه، فصبر عوضته عنهما الجنة} وعوض الله لا عوض مثله، وعزاء الله لا عزاء يشابهه، هذا خبث النفس، وهو السبب الأول، ولذلك لا تجد أحداً يتقرب إلى الله إلا قربه الله.
من الذي أتى إلى باب الله فرده؟
من الذي سأل الله فما أعطاه؟
من الذي استهدى الله فما هداه؟
لكن العبد هو المنحرف: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:٥] هم الذي بدءوا في الزوغان والانحراف، فلما بدءوا ختم الله على قلوبهم، ولذلك يقول بعض الشباب: مالي لا أهتدي؟!
أنت الذي عطلت أسباب الهداية، فلو أردت أن تهتدي لحافظت على الصلوات الخمس، وأتيت إلى مجالس الخير، وإلى المحاضرات الإسلامية، وإلى الدروس النافعة، ولسمعت الشريط الإسلامي، ولقرأت الكتاب الإسلامي، ولرفعت يديك إلى الحي القيوم الذي يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:١٨٦].
الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بيده كل شيء، أجلسكم هنا، وأجلس غيركم في خمارات الخمر وبارات الدعارة -والعياذ بالله- يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ولكن يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:٦٩] فأنتم بدأتم إن شاء الله خطوات، فاجتباكم، فنسأل الله أن يثبتنا وإياكم.