[بعض أحكام الجهاد]
الفائدة السادسة: أن الجهاد يلزم بالشروع فيه: حتى إن من لبس لامته وشرع في أسبابه وتأهب للخروج، ليس له أن يرجع كما فعل صلى الله عليه وسلم، فمن تهيأ لحضور المعركة التي وجبت عليه، فليس له أن يرجع وليس له أن يعود ما دام قد عزم، لقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:١٥٩].
الفائدة السابعة: أنه لا يجب على المسلمين إذا طرقهم عدوهم في ديارهم الخروج إليه، واستدل بذلك ابن القيم على أنه ليس بواجب أن يخرج المسلمون من دورهم وقصورهم ومدنهم إلى الأعداء إذا طوقوا مدنهم، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم رأى أن يبقى داخل المدينة، ويكون القتال داخل المدينة، فهذا فيه أن المسلمين لهم أن يبقوا في مدنهم ومساكنهم حتى يأتي الأعداء، فيقاتلوهم إذا أحاطوا بهم واقتربوا منهم، وهذا ذكره ابن القيم في زاد المعاد.
الفائدة الثامنة: جواز تصرف الإمام في بعض أملاك رعيته؛ فيجوز للإمام وقت المعركة ووقت الأزمات أن يتصرف ببعض الأملاك وأن يأخذ بعض الأشياء لمصلحة الجهاد، بشرط ألا يتجاوز الحد في ذلك، أو يضر بالناس ضرراً بيناً، وأخذ ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم حين مر في مزرعة ذاك المنافق.
الفائدة التاسعة: لا يؤذن للصبيان غير البالغين في القتال؛ وقيل: حد ذلك خمسة عشر سنة، وقالوا: أكثر أو أقل، وقالوا: باختلاف الأشخاص؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم منع بعض الصبيان وأجاز الذين بلغوا منهم، فالصبيان لا يشاركون في المعركة، والجهاد ليس عليهم بواجب، بل يبقون في دورهم ويتعلمون العلم، وليس مرحلتهم مرحلة الجهاد، لأنهم لا يستطيعون الحضور، فعذرهم صلى الله عليه وسلم.
الفائدة العاشرة: جواز الغزو للنساء؛ فإن النساء شاركن في معركة أحد، وأفضل من شارك في المعركة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء فقد شاركت فاطمة وأتت إلى أبيها صلى الله عليه وسلم فأعطته ماء، وغسلت الجراح عنه، وأحرقت بعض السعف ثم حشته في الجراح.
وحضرت نسيبة الأنصارية وقاتلت حتى يقول عليه الصلاة والسلام: {ما التفت في جهة إلا وجدتها تقاتل عني} فرضي الله عنها.
وكانت النساء يوم أحد يزفرن القرب، ويملأنها للمقاتلين؛ ولذلك حين أتي إلى عمر رضي الله عنه في خلافته بشيء من الذهب والفضة فأعطى أم سليط وترك نساءه، فقلن له رضي الله عنه: تعطي أم سليط وتتركنا؟ قال: إن أم سليط لا أنسى موقفها يوم أحد، كانت تملأ القرب للمسلين، فانظر كيف قدمها رضي الله عنه بهذا وترك نساءه، فرحم الله تلك العظام، وأسكنها فسيح الجنان.
الفائدة الحادية عشرة: قال أهل العلم ومنهم ابن القيم بجواز الاستماتة كما فعل أنس بن النضر، أي: الإقدام على الهلاك والاقتحام في القتل، كما فعل أنس بن النضر، فإنه ألقى درعه وكسر غمد سيفه، واقتحم حتى لقي العدو حاسراُ وفي بعض الآثار: {إن ربك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يضحك للعبد يلقى العدو حاسراً} أي: لا درع عليه حتى يقاتل ويقتل، وليس ذلك من الهلكة.
ولذلك لما حضر أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه بمعركة جهة القسطنطينية في بلاد الروم فألقى أحد المجاهدين بنفسه واستمات في المعركة، فقال بعض الناس المتأخرين في الإسلام: أما يقول الله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:١٩٥] قال: لا.
إن التهلكة هي أن يمسك المال أو ألا يقاتل في سبيل الله.
وطلب أبو أيوب من الصحابة أن يدفنوه في آخر بقعة من بقاع المسلمين وأول بقعة من بقاع الكفار، قال: حتى أبعث يوم القيامة من قبري وأنا مسلم بين كفار.
الفائدة الثانية عشرة: أن الإمام إذا أصابته جراحة صلى قاعداً وصلى الناس وراءه قعوداً، وهذه الفائدة أخذها ابن القيم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه في أحد صلى الفريضة إما الظهر وإما العصر قاعداً من كثرة الجراح، وصلى الناس وراءه قعوداً، فإذا كان الإمام الراتب إمام الحي العالم يصلي قاعداً لعذر، فللناس أن يصلوا وراءه قعوداً، وفرَّق بعض أهل العلم فقالوا: إن ابتدأ قاعداً فيبتدئون معه قعوداً، وإن طرأ عليه القعود في أثناء الصلاة فيواصلون قياماً وبسط هذه المسألة في مجال آخر.
الفائدة الثالثة عشرة: جواز دعاء الرجل أن يقتل في سبيل الله عز وجل؛ فإن عبد الله بن جحش دعا أن يقتل في سبيل الله، وليس ذلك من تمني الموت المنهي عنه، بل هو من طلب الشهادة وطلب ما عند الله ورضوان الله عز وجل، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من سأل الله الشهادة بصدق؛ بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه}.
الفائدة الرابعة عشرة: أنَّ المسلم إذا قتل مسلماً أو قتل نفسه فهو من أهل النار، إذا قتل المسلم نفسه فهو من أهل النار؛ لأن رجلاً اسمه قزمان حضر معركة أحد، وقاتل فلما أصابته جراحة، لم يصبر ولم يحتسب، فأخذ سيفه وسله واتكأ عليه حتى خرج سيفه من ظهره، فأوحى الله عز وجل إلى رسوله أحاديث: {بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة} فحرام على المسلم أن يقتل نفسه مهما أصابته الابتلاءات.
الفائدة الخامسة عشرة: أن السنة ألا يغسَّل ولا يصلى على شهيد المعركة، أما التغسيل فمعروف، وأما الصلاة عليه فإنه ورد في آثار عند الطحاوي والنسائي أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على بعض الشهداء، وورد في حديث صحيح أنه ترك الصلاة على بعضهم، قال ابن القيم في تهذيب السنن: الإمام مخير إن شاء صلى وإن شاء ترك، وفي صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف على شهداء أحد يصلي عليهم كالمودع لهم، قيل: هذا الدعاء، وإلا فإنه لم يصل عليهم في الحال، فالإمام مخير في شهداء المعركة؛ أن يصلي أو يترك، وأكثر أحواله صلى الله عليه وسلم أنه ما صلى على شهداء المعركة، لأن الصلاة تزكية والله قد زكاهم.
ومنها: أن الشهيد إذا كان جنباً غسل قاله ابن القيم، لأن حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه كان مع زوجته فلما سمع داعي الله خرج جنباً وباع نفسه، فقتل في المعركة، فقال عليه الصلاة والسلام: {سلوا أهله ماله؟ قالوا: خرج جنباً ولم يغتسل، قال: والذي نفسي بيده، لقد رأيت الملائكة تغسله بين السماء والأرض في صحاف من ذهب بماء المزن} فاستدل بذلك بعض أهل العلم على أن الجنب إذا عُلم أنه مات جنباً وهو من الشهداء أنه يغسل وقد رجح ذلك ابن القيم.
الفائدة السادسة عشرة: أن السنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم ولا ينقلوا من أماكنهم؛ لأنها شاهدة لهم عند الله، فلا ينقل الشهيد إلى بلده، بل يدفن في أرض المعركة.
ومنها: جواز دفن الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، فلما كثر القتلى في أحد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ابحثوا أيهم المتحابون في الدنيا فادفنوهم كما تحابوا في الدنيا، يعني: الصديق مع صديقه، والحبيب مع حبيبه، فكانوا يدفنونهم وكان يقول: {التمسوا أيهم أكثر أخذاًَ للقرآن فقدموه تجاه القبلة} فأكثرهم أخذاً للقرآن يقدمونه تجاه القبلة ويدفنون صاحبه وحبيبه معه؛ لأنها روضة نسأل لله أن يوسع علينا وعليكم، ولا توسع إلا بعمل صالح، والجار الصالح مطلوب، كما أن الجار الصالح في الأحياء نعمة من النعم، فكذلك عند الموت، فعلى المسلم أن يلتمس المقبرة التي يدفن فيها حبيبه أو ولده أو صفيه ليكون في سعة، ولا يضره إذا دفن مع فساق، إذا كان عمله صالحاً، وإذا مات صاحبك وعليه بعض المعاصي وهو مسلم، فعليك أن تكثر الدعاء له والصدقة، وأن نكثر له الاستغفار فإنها تصل إليه أحوج ما يكون.
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشد ويل لعبد عن سبيل الله صد
ومنها: أن من عذره الله في التخلف عن الخروج في المعركة بمرض أو عمى أو عرج، وأبى إلا أن يحضر، فله ذلك وهو مأجور مشكور، لقد عذر الله الأعمى أن يحضر المعركة، ولكن عبد الله بن أم مكتوم قال: لا والله! إن الله يقول: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:٤١] وأنا ثقيل والله لأنفرن، فحضر معركة القادسية وهو أعمى وبقي يحمل الراية حتى قتل في سبيل الله.
ومنها: أن المسلمين إذا قتلوا واحداً منهم يظنونه كافراً فعلى الإمام ديته، ولذلك كان أبو حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مسلماً، وظنه المسلمون من المشركين، فاجتمعوا عليه فقطعوه بالسيف، فقال حذيفة: يغفر الله لكم فقال صلى الله عليه وسلم: أدفع ديته لك، قال حذيفة لا.
غفر الله لكم، فما زالت بقية الخير في حذيفة حتى لقي الله.
ومنها: استخراج عبودية الله لأوليائه في السراء والضراء، فالله ابتلاهم بالسراء ليشكروا، وابتلاهم بالضراء ليصبروا.
ومنها: أن معركة أحد كانت مقدمة لموته صلى الله عليه وسلم، ودرساً شهيراً، فقد نزل فيها قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:١٤٤] ثم مات عليه الصلاة والسلام فثبتوا؛ لأن الله أعطاهم في أحد درساً لا ينسونه.