جاء عبد الله بن أم مكتوم الأعمى الضرير الفقير المسكين، ولكنه مسلم مؤمن، قائم الليل صائم النهار، جاء إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام يسأله مسألة فرعية فقهية، والرسول صلى الله عليه وسلم مشغول بكفار قريش وساداتهم يريد أن يهديهم إلى صراط الله المستقيم، فلما دخل عليه، قال: يا رسول الله! أريد كذا وكذا، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يريد أن تفوته الفرصة مع هؤلاء الكبار.
فعاتبه ربه من فوق سبع سموات، عاتبه في هذا الأعمى المسكين الضرير المحتاج في خطاب يلذع القلوب، يقول الله له:{عَبَسَ وَتَوَلَّى}[عبس:١] وخاطبه بخطاب الغيبة، ولم يقل: عبست، وإنما يقول: عبس أي: تغير وجهه واكفهر، عبس هذا الرسول النبي، عبس هذا الداعية في وجه هذا الرجل الصالح، عبس وتولى وأعرض عنه:{أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى}[عبس:٢] أي: كيف تعْبِس وهو أعمى ولا تستقبله؟ مسلم في قلبه قلعة من قلاع التوحيد، في قلبه جامعة من أكبر جامعات الدنيا من الإخلاص والصدق والتعامل:{أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى}[عبس:٢] أما ترق للأعمى؟! أما تحلم عليه؟! أما تعطف عليه؟! ولم يسمه باسمه وإنما علمه بسمته.
ثم قال الله له:{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}[عبس:٣] من أخبرك أن هذا أراد أن يتطهر بالعلم النافع؟! فقد أراد منك أن تفقهه في الدين، وأراد منك أن تقوده إلى رب العالمين:{أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى}[عبس:٤ - ٥] أما الكافر الذي استغنى عن الرسالة والرسول، وعن القرآن والسنة، وعن الهداية والنور:{فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}[عبس:٦] تستقبله وتهش وتبش في وجهه، وتلين له في الخطاب، تستقبل هؤلاء الجبابرة الذين أتوك، وأما هذا الأعمى تعرض عنه!
{وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى}[عبس:٧] ليس عليك حساب أن يتطهر هؤلاء، ذرهم يموتون بكفرهم، ورجسهم وعنادهم وجبروتهم فالنار مثواهم:{وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}[عبس:٨ - ١٠] فلا تفعل ذلك.
{فأتى عبد الله بن أم مكتوم مرة ثانية، فقام له صلى الله عليه وسلم، وعانقه وفرش له رداءه، وقال له: مرحباً بالذي عاتبني فيه ربي} وبالفعل كانت النتيجة أن مات هؤلاء الأشراف السادة على الكفر ودخلوا ناراً تلظى، وأما عبد الله بن أم مكتوم فأسلم واستمر في الإسلام، ولما أتى داعي الهداية، والكفاح، والجهاد، وارتفعت راية الإسلام بيد عمر رضي الله عنه وأرضاه، ونادى بالنفير إلى القادسية، إلى معركة فاصلة مع آل كسرى وآل رستم؛ كان من المجاهدين عبد الله بن أم مكتوم، قال له الصحابة: أنت أعمى، قال: لا والله، يقول الله تعالى:{انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[التوبة:٤١] فلما حضر المعركة، سلموه الراية، فوقف مكانه حتى قتل، فكان قبره تحت قدميه.
سلام على ذاك الصديق المخلص، وسلام على ذاك المنيب الذي عرف الله.
والمقصود: أنه تشرَّف بالإسلام، فكان قلعة من قلاع الحق استقبلت نور السماء فوزعته على البشرية، والرسول عليه الصلاة والسلام كما قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها:[لا يعجبه شيء في الدنيا إلا التقي]] وعبد الرحمن بن عوف يقول: [والله ما رأيت متقياً لله إلا وددت أنني في مسلاخه]].
فأنت ترى المتقي فيحبه قلبك إن كنت مسلماً، وتظهر عليه علائم النصح والقبول والرضا، وترى الفاجر ولو كان وسيماً جميلاً فعليه آيات السخط، والغضب، وعليه سمات الإعراض عن الله، وقال تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}[المنافقون:٤] أما الأجسام فطويلة، وأما البشرة فجميلة، ولكن القلوب قلوب ضلالة وجهالة وعمالة.