[كل الناس يغدو]
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: {كل الناس يغدو}.
فالغدو هو الذهاب -عند أهل اللغة- في أول النهار، قال النابغة الذبياني:
زعم البوارح أنَّ رحلتنا غداً وبذاك خبرنا الغراب الأسود
يتشاءم بالغراب، والعرب يتشاءمون بالغربان.
يقول: الأسود أخبرنا بأننا سوف نسافر غداً، والشاهد هنا غداً، ولكن قد تستخدم في غير غدو الصباح، مثل ذهب ورجع فيقال: غدا وراح.
فقوله: يغدو أي: يذهب، فمعناه يذهب في تجارته وفي كسبه وفي عمله، فهو على أحد رجلين: إما مرضياً عنه، وإما مغضوباً عليه، والناس على ذلك: الأستاذ والموظف والجندي والمسئول والكبير والصغير والتاجر والفلاح والطبيب والمهندس والمؤذن، كلهم يغدو في الصباح، يركب سيارته إلى عمله، فهو أحد صنفين إما ذاهب في غضب الله حتى يعود، أو في رضا الله حتى يعود.
وأنا أضرب لك مثلاً: موظف ذهب متوضئاً، وقد صلى الفجر في جماعة، وذكر الله عز وجل فذهب إلى عمله وفي نفسه أن ينصر دين الله، وأن ينصر أولياءه وأن ينهي أمور المسلمين وأن يساعد المحتاجين وألا يتغيب عن وظيفته وأن يؤدي أمره على أحسن وجه، لحديث: {إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه} فذاك في رضا الله حتى يعود، وهذا الذي اشترى نفسه من الله.
وموظف ترك صلاة الفجر فلم يصلها في جماعة، وقام بلا ذكر، وذهب إلى عمله، قلبه معقود على الغضب وعلى الكبر، لا يريد نفع المسلمين ولا أداء عمله على أحسن وجه، ولا يريد الإحسان إلى المساكين، يؤخر معاملات الناس، ويرتشي في أموره ويغضب إذا دخل عليه الصالحون، أخذ منصباً؛ حرباً لأولياء الله، وحرباً لعباد الله، يدس لهم الدسائس، ويعمل لهم الأحابيل، فهذا في غضب الله وفي لعنة الله حتى يعود، فقس طبقات الناس على ذلك، والله رقيب على الأعمال ورقيب على التصرفات، وهو الذي يحاسب الناس ولا يحاسبه أحد، لا معقب لحكمه، فلا يوقع بعده أحد، لا يسأل عما يفعل وهو يسألون، ويستعرض سبحانه وتعالى طبقات الناس يوم القيامة -الجنود والموظفين، والأساتذة، والطلاب، والفلاحين والتجار- في يوم العرض الأكبر، فيحاسبهم بأيامهم وما فعلوه.
والناس على ضربين:
رجل جعل وظيفته ومنصبه حرباً لله ولرسوله ولأوليائه، فلا ينتقد إلا الصالحين، ولا يعادي إلا الأخيار، ولا يقف حجر عثرة إلا عند الأبرار، فيسهل أمور الأشرار، ويتقرب إلى الفجار، ولا يراقب الله الواحد القهار.
ورجل آخر جعل منصبه دعوة إلى الله، واستخدمه في طاعة الله، فقرب الأخيار، وسهل أمور المساكين، ولم يحتجب عن حاجة الناس يقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به} وقال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {من ولي من أمر أمتي شيئاً، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم، احتجب الله دون حاجته وخلته يوم القيامة} والله يجازي الناس بمثل ما فعلوا، فجزاؤهم مثل ما فعلوا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:٤٦] فهذا معنى: {كل الناس يغدو فبائع نفسه} وهناك ثلاث آيات هي في العقود والصكوك الموقعة من رب العالمين، ليست عقود الدنيا ولا بيع السيارات والعمارات، العقد الذي وقعه محمد صلى الله عليه وسلم، وأتى به جبريل.
جبريل يروي لنا الآيات في حلل من القداسات تهمي عندها السجف
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا
أملاك ربي بماء المزن قد غسلت جثمان حنظلة والروح تختطف
وكلم الله من أوس شهيدهم من غير ترجمة زيحت له السجف
والعرش يهتز من هول ومن فرق لـ سعد إذ سفراء الوحي قد وقفوا
فهذا البيع وهذا الشراء {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:١١١] في مجلس العقد، وقال سبحانه: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:١١١] وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:٢٠٧] وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:١٥] وقال سبحانه: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:١٤] هؤلاء المنافقون المردة، يجلس أحدهم مع الصالحين، فيتذلل لهم ويمدح الدين، ويلقي لك محاضرة في فضل الإسلام وفي فضل الدعاة والعلماء، فإذا جلس في الخفايا أخرج خنجره يطعن به الإسلام {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:١٤ - ١٦].
بعضهم يقولون: ضحكنا على هذه الدقون واللحى، قال الله سبحانه: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:١٥] قال أهل العلم: هؤلاء يخادعهم الله يوم القيامة مثلما يخادعون الصالحين، يمد لهم نوراً فيمشون على الصراط، ويظنون أن هذا النور سوف يوصلهم إلى الجنة، فإذا وقفوا وسط السراب، أطفأ الله عليهم النور، فسقطوا في جهنم، وهذه أعظم خديعة، وهذه هي والله اللعبة الأممية التي ما سمع الناس بمثلها.
وفي الصحيحين: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أنزل الله عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:٢١٤]-قال: في الشراء والبيع- قال: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً}
وفي رواية للبخاري: {يا بني عبد مناف اشتروا أنفسكم من الله، يا بني عبد المطلب! اشتروا أنفسكم من الله، يا صفية عمة رسول الله، يا فاطمة بنت محمد اشتريا أنفسكما من الله، لا أملك لكما من الله شيئاً} هذا الشرف.