[تفسير قوله تعالى: (لا ريب فيه)]
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:٢] ما معنى" لا ريب"؟
تدل كلمة " لا ريب" على أحد ثلاثة معانٍ:
١ - لا ريب بمعنى: لا شك.
٢ - بمعنى: لا تهمة.
٣ - بمعنى: لا حاجة.
لكن معناه هنا: لا شك.
فهذا الكتاب لا يشك فيه إلا ظالم فاجر، ولا يوسوس فيه إلا ملحد، ولا يخرص فيه بالظن إلا زنديق.
وقيل: التهمة؛ ولذلك يقول جميل بثينة:
قالت بثينة يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريب
تقول: إنك سببت لي التهمة فيقول: وكلنا متهمون ببعض، وقال هذا البيت وهو من الشواهد في اللغة، ومثل هذه الأبيات في الحب تصرف إلى المخلوق، ولو صرفوا قلوبهم للواحد الأحد لكان أعظم وأعظم.
يقول مجنون ليلى في قصيدة له من أحسن القصائد، لكنه صرفها إلى المخلوق، يقول فيها:
وإني لأستغشي وما بي غشوة لعل خيالاً منك يلقى خياليا
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
فأخذها ابن تيمية، فكان يخلو بنفسه يذكر الله تعالى؛ فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: {رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فكان ابن تيمية يخلو بنفسه، قال تقي الدين بن شقير: رأيته في صحراء ما معه إلا الله، وقد خلا بنفسه وقال: لا إله إلا الله ثم دمعت عيناه وقال:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
وقد سئل ابن تيمية: كيف يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:٤٥] كيف يأمرهم بالذكر وقت الأزمات؟ وهم في مصافة العدو وفي محاربة الكافر ويأمرهم الله بالذكر؟!
قال ابن تيمية: العرب تتشرف بذكر المحبوب وقت الأزمات، فأراد الله أن يخبرهم أن أعظم محبوب هو الله.
ولذلك يقول عنترة الوثني الجاهلي:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
فالله أرشدهم إلى أعظم طريقة وهي ذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الأزمات.
وقيل: (لا ريب) لا حاجة.
قال كعب بن مالك شاعر الإسلام مع حسان:
قضينا من تهامة كل ريب وخيبر ثم أغمدنا السيوفا
يقول: كل حاجة قضيناها من تهامة ومن نجد، يقول:
تخيرها ولو نطقت لقالت قواطعهن دوساً أو ثقيفا
يقول: انتهينا من الحاجات بالسيوف، ففتحنا نجد بالإسلام وفتحنا تهامة، وسألنا سيوفنا: ماذا تريدين؟ قالت: نريد دوساً وثقيفاً؛ فباغتوا دوساً وثقيفاً فانتصروا عليهم.
إذاً: (لا ريب فيه) أي: لا شك فيه، وهذا الكتاب هو الذي لا ريب فيه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢] فمن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن عمل به كان على صراط مستقيم من اتبعه وعمل بما فيه قاده إلى الجنة، ومن أدبر عنه وأعرض أخذه بقفاه حتى يقذفه في النار.
القرآن لا يترك أحداً إما مسلم متدبر خاشع يأخذه حتى يدخله الجنة، جاء في بعض الروايات أن القرآن يقول لصاحبه: والله لا أفارقك حتى أدخلك الجنة.
ويقول للفاجر: والله لا أفارقك حتى أكبك على وجهك في النار.
فنعوذ بالله.
ومنهم من يتوسد القرآن، يعرض عن أحكامه، ويترك الصلاة، ويعق الوالدين، ويزني ويسرق ويشرب الخمر، فهذا يقذفه على وجهه في النار: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:١٢٥ - ١٢٦].