[فضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد وأهميتها]
قال ابن حجر، وهو يشرح حديث: {تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة} قال: إنما تفضل بالدرجات لكثرة من مشى ومن سار بتعظيم الحسنات في المسجد.
مشيك إلى المسجد حسنة، ودخولك المسجد وذكرك حسنة، وتحية المسجد حسنة، ووقوفك في الصف لتعلن تضامن المسلمين حسنة، وسماعك الإمام حسنة، تسليمك على الملائكة في الميمنة والميسرة حسنة، ومصافحتك لأخيك حسنة، وسؤالك عن أخيك حسنة، وقهر الكفار، وترغيم أنوفهم برؤية اجتماع المسلمين حسنة إلى سبع وعشرين حسنة.
والذي يصلي في بيته بلا عذر، يعلن الانهزامية، والفشل.
ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:٤٣] أي: في المسجد.
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:٣٦].
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:١٨].
وفي سنن الترمذي بسند فيه نظر: يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان}.
لكن هذا الحديث في سنده درَّاج أبو السمح، روايته عن أبي الهيثم ضعيفة، لكن معناه صحيح.
{إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان} فنحن شهداء الله في أرضه.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:١٤٣].
من رأيناه يعتاد المسجد، ويحب الصلاة، ويداوم على الخمس الصلوات في المسجد، قلنا: نشهد لك أمام الله يوم العرض الأكبر أنك من المؤمنين.
ومن رأيناه يتخلف، أو يقصر، أو يتأخر علمنا أن في قلبه شبهة وشك ونفاق.
في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: [[إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سن لكم سنن الهدى، وإن الصلوات الخمس من سنن الهدى، والذي نفسي بيده! لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يُهادَى به بين الصفين حتى يقام في الصف]].
أتعرف ما هي الميتة الحسنة؟
الميتة الحسنة: أن يتوفاك الله وأنت ساجد.
قال ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير -كما ذكر ذلك الذهبي عنه بسند حسن-: [[اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، قال له أبناؤه: ما هي الميتة الحسنة؟، قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد]].
فأتته سكرات الموت، وأذان المغرب يرتفع حَيَّاً على الهواء، على هواء التوحيد إلى آذان الموحدين، فقال: [[احملوني إلى المسجد قالوا: وأنت في سكرات الموت، أنت معذور قال: أسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح وأموت في بيتي؟! لا والله]] إنها القلوب، إنه الشوق، إنها حرارة الإيمان.
فحملوه على الأكتفاف، فلما وضعوه، صلى وهو جالس، فلما أصبح في السجدة الأخيرة قبض الله روحه، هذه هي الميتة الحسنة.
أبو ريحانة، التابعي الكبير، مات وهو ساجد لله رب العالمين، إماماً بالناس.
علي بن الفضيل بن عياض، ابن العلامة الكبير والزاهد النحرير الفضيل بن عياض: قرأ أبوه في سورة الصافات: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:٢٤ - ٢٥] فركع علي وقام ثم سجد وقبض الله روحه وهو في السجود.
ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
إنها القلوب التي تأبى أن تتأخر يوم تسمع نداء حي على الصلاة، حي على الفلاح.
يقول محمد إقبال -واسمحوا لي إذا أكثرت من كلام محمد إقبال، فهو شاعر الإيمان والحب والطموح- في وصف المسلمين، يوم يسمعون (الله أكبر) في المعركة، فيتركون السيوف، ويستقبلون الحجاز -أي: الكعبة-:
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
يوم تأتي المعركة، ويدعو داعٍ: (الله أكبر، الله أكبر) توضع السيوف، وتبدأ الصفوف، وتأتي صلاة الفرض، فلا يعذر إلا من عذره الله عن التخلف.
أتى أعمى ذهب بصره، وقال للرسول عليه الصلاة والسلام: {الوادي بيني وبين المسجد مسيل، والليل مدلهم، والأرض مخيفة ذات سباع، فهل لي من عذر؟ فعذره، ثم عاد فقال: هل تسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح، قال: نعم.
قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة}.
وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنتَ حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به تَرْقَ أبواب الجنان الثمانيا
من المسجد نتعارف، وفي المسجد نتعارف، ومن المسجد يبدأ التعاون والتكاتف والتضامن.
لا نعرف المريض أنه مرض إلا من المسجد فنزوره.
ولا نعرف من فارقنا، ومن سافر من ديارنا إلا من المسجد.
ولا نعرف من أصابه أمر يحزن إلا من المسجد فنواسيه.
ولا نعرف من أتت له بشارة إلا من المسجد فنعيش البشارة معه؛ لأن المؤمن يفرح لفرح أخيه، ويحزن لحزن أخيه.
ثم قضايا لا تغيب عن البال في المسجد، منها:
الاعتكاف في المسجد:
الحنابلة يقولون: لا حد لأقل الاعتكاف، ومنهم من يقول: ولو ساعة، فالدقائق المعدودة التي تجلسها: اعتكاف، فاليوم: اعتكاف، واليومان: اعتكاف، واليوم والليلة عند المحدثين: هو أقل حد للاعتكاف.
والصحيح: أنه لا حد لأقل الاعتكاف؛ فأنت في جلوسك وأنت تنتظر الصلاة، في المسجد اعتكاف.
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تزال الملائكة تصلي على أحدكم، مادام في مصلاه الذي صلى فيه، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تب عليه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فهنيئاً لرواد المساجد، وهنيئاً لضيوف الله، يوم يأتون في المساجد فيذكرون الله، ويسبحون الله، ويقرءون القرآن.
قال عمر وهو يرسل أبا موسى الأشعري، إلى الكوفة: [[يا أبا موسى! إياك أن تأتي إلى قوم في المساجد يقرءون القرآن، لهم دوي كدوي النحل بالقرآن، فتشغلهم بمسائلك]].
إذاً: فالمسجد من مهماته الاعتكاف، أن تبقى فيه كلما وجدت ساعة أو فراغاً أن تتوضأ في أي وقت وتذهب إلى المسجد لتعتكف فيه.
يقول ابن الوزير، علامة اليمن في القرن الثامن:
فساعة في مجلس واحد أفضل من ملك ملوك الملوكِ
إيْ والله، تعفير الوجه لله، والبكاء من خشية الله، وذكر الله، وتلاوة كتاب الله، أفضل -والله- من ذهب الدنيا، وفضة الدنيا، وقصورها وجاهها.
ولذلك ذكر أهل التراجم عن شيخ الإسلام ابن تيمية الجهبذ العَلَم، ذاك الرجل الذي يُعتبر رجل ألف سنة، ليس مائة سنة، بل ألف سنة، يقول ذاك المجري الذي هاجم السنة: وضع ابن تيمية ألغاماً في الأرض، فجَّر بعضها محمد بن عبد الوهاب، وبقي بعضها لم يفَجَّر حتى الآن.
ابن تيمية يقول عنه الذهبي: كان جده قمراً، وأبوه نجماً، وابن تيمية شمساً، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة.
كان يذهب إلى المسجد، فيعفر وجهه في المسجد، ويقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني.