والشهادة هبة من الله عز وجل، وفي صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:{من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه} وقد سأل الله الشهادة في كل موقعة، وقد تمنى وكان يسجد ويقول كما مر معنا: اللهم احشرني يوم العرض الأكبر من حواصل الطير وبطون السباع، ومع ذلك لله حكمة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
خالد بن الوليد يقال: خاض أكثر من مائة معركة، ومع ذلك مات على الفراش -حكمة بالغة- وهذا سمي عند أهل العلم شهيداً؛ لأن مرضه أشبه بالشهادة، فقد جلس في الإيوان وكان تُرفع إليه قصاصات وأوراق الشكاوى فرفع طرفه وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم احمر وجهه فسحب من المكان ورفع، فمات بعد ساعات، وأصيب بالخوانيق وهو اختناق وقليل جروح امتدت إلى بطنه فلعله من الشهداء الذين قال فيهم عليه الصلاة والسلام:{المبطون شهيد} قالوا: دخل الداء إلى بطنه، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:{من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة}.
وفي تذكرة الحفاظ للذهبي أن أبا زرعة الحافظ الكبير المحدث لما حضرته سكرات الموت أغمي عليه، فأراد تلاميذه بعد ما استيقظ أن يذكروه هذا الحديث، لأنهم استحيوا أن يقولوا: قل لا إله إلا الله، وإلا فلا حياء في مثل هذه الكلمة، بل النصيحة واردة، لكن لجلالة أبي زرعة في الإسلام، أرادوا أن يذكروه بسند الحديث ليتذكر هو الحديث، قال: فاختلفوا في سند الحديث قال بعضهم: حدثنا فلان، وقال بعضهم: حدثنا فلان، فقال: أبو زرعة، وهو في الرمق الأخير، حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، أن فلاناً حدثنا عن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:{من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} ثم قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ثم مات.
ولما توفي اختلطت السلطة، وقام نائبه ففتح الإيوان للعزاء، فسمع بكاء الناس، ووقف النساء والأطفال على سطوح المنازل، ونزل الجند من الثكنات معهم الخيزرانات، يمنعون الناس من النزول إلى السكك خوفاً من الرهج، وأصاب الناس هم عظيم وحزن، ودخل في كل بيت مصيبة، وقام الناس يقرءون القرآن، ويبتهلون إلى الله أن يغفر له، وأعيدت قراءة رسائله إلى الأمة، واشتد البكاء، ونزل القضاة يصلون بالناس، وارتفعت جنازته وسار وراءها الجيش ثم العامة، وما وصلت إلى المقبرة إلا في صلاة العصر وقد مضي بها من الصباح.
وتقطعت في الطريق أحذية الأمراء والوزراء، وكانت الأغطية تسقط على الناس من على سقوف المنازل والعمامات، وكان الناس يقولون: سقى الله نور الدين من سلسبيل الجنة، غفر الله لـ محمود، رحم الله محموداً، قال: وأسلم من النصارى، واليهود جمع عظيم لما رأوا جلالة الإسلام وعظمته، وقام القاضي الشهرزوري يصلي عليه فقال: الله أكبر فبكى؛ فبكى الناس.
قال: وكان له رسم في حياته، يحسب ما يدخل عليه من أجرة الدكاكين ومن أجرة الكوافي ونسخ المجلدات، ويحسب ما ينفق في سيبل الله، وكانت معيشته عيشة الفقير، وكان له بعض الأموال في مزرعة في الشمال ينفقها على الفقراء.