[كتب المتقدمين خير من كتب المتأخرين]
أنا ذكرت أن الشاطبي ينعى كتب المتأخرين، وأنها لا فائدة فيها في الغالب، وأن كتب المتقدمين أفيد خاصة القرن الثالث والرابع وما قبلهما.
وصدق رحمه الله، فإنه كلما تقدم العلم كان أحسن، وكلما تأخر كان أسوء، ولذلك من يؤلِّف في الغالب في هذا القرن بالفقه أضعف وأسقم من الذي يؤلِّف قبله إلا في مسائل ما وقعت فيمن قبلهم، ومن قبل فيمن قبل أضعف، وهكذا حتى تنتهي إلى التابعين ثم الصحابة؛ لحديث: {خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم} والفضل هنا فضل مطلق، وبركة مطلقة في التأليف، والعلم، والتدريس، والدعوة، والتوجيه, والزهد، والعبادة.
التعصب المذهبي تخلف ونقص، وجد في الناس من يقول: لا تهاجموا المذاهب، ونحن نقول: رحم الله أهل المذاهب، وأصحاب المذاهب، ومن سار مع المذاهب، ومن جلس مع أهل المذاهب من المسلمين، وأكل مع أهل المذاهب، وشرب معهم.
والآخرون يقولون: المذاهب لا بد أن تقصى من الساحة، وأن تجتث وتبعد، وأن يرمى بها في البحر الأحمر.
والناس كأنهم ثلاثة، طرفان ووسط:
طرف يقولون: لا نحتاج إلى المذاهب، ولا إلى كتب الفقه أبداً، نأخذ من حيث أخذ القوم من الدليل والحديث؛ وهذا فيه حقٌ وشيءٌ من النقص.
وطائفة أخرى تقول: لا بد أن يحترم كلام العلماء، وفقه العلماء، ومصنفات العلماء الفقهاء، وهذه المتون الفقهية هي الأصل؛ لأنهم عرفوا من أين يستنبطون، فلا بد أن نأخذ منهم، ونقلدهم، أما نحن فلا نستطيع أن نأخذ من حيث أخذوا؛ وهذا الكلام فيه حق ونقص.
أما حق الكلام الأول، فحقه أنه ردنا إلى النص وإلى قال الله وقال رسوله، وصدق، ف أبو حنيفة والإمام أحمد ومالك والشافعي ليسوا بأنبياء، خاتم الأنبياء هو محمد عليه الصلاة والسلام وهو المعصوم الذي أنزل عليه القرآن، لم ينزل جبريل على أبي حنيفة ولا على أحمد ولا الأوزاعي ولا مالك ولا الشافعي، فالمعصوم الذي يؤخذ منه العلم والوحي هو محمد صلى الله عليه وسلم.
فحقه أن يقال: لا بد من الدليل في المسألة، وأنت لا تتأخر يوماً من الأيام إذا سألت عالماً أن تقول: ما هو دليلك؟ الإمام أحمد أزهد منا، وأصدق منا، وأخلص منا، وفكره أثقب من أفكارنا، فهو يستنبط درراً وكنوزاً، لأن بعض الناس ينزل إلى قاع البحر فيأخذ خشباً وفحماً، وبعضهم إذا غاص أتى بدرٍ وزبرجدٍ وجوهر، فالإمام أحمد إذا غاص أتى بهذا اللموع والإشراق ومثله مالك والأوزاعي والثوري وفقهاء التابعين.
فهذا نقصه: الاستزراء بعلم السلف، فإنهم يجب أن توقر أقوالهم، لكن إذا خالف الدليل فاتركه جملةً وتفصيلاً، واضرب به عرض الحائط كما قالوا.
أما الذين يقولون: كتب الفقه لا بد أن تسيطر في الساحة، وأن يؤخذ منها، ولا يؤخذ من الدليل لأنا لا نعرف الاستنباط من الكتاب والسنة، ويحترم أقوال العلماء.
نقول: الحق احترام كلام العلماء، والنقص أن تجعلوا كتب الفقه كـ صحيح البخاري ومسلم كتب ألفها بشر، ليس عليها دليل، لكن نسألهم عن دليلهم.
يوم تضعف الأمة الإسلامية في فترة من فتراتها تنشأ هذه العصبيات والخلافيات؛ لكن في صور متعددة، مرة تعصب مذهبي، ومرة تعصب لآراء وتشتت وتناحر، ولذلك دخل التتار والناس يختلفون في مسألة رفع الأيادي، ويتضاربون في المساجد بالأحذية، هل ترفع أو لا؟
هذه فترة سقوط للأمة، فإذا ما انتصرت الأمة وتقوت وعادت إلى الكتاب والسنة تأخذ منها مباشرة، مع احترام آراء العلماء والأئمة، وكلما كثر الخلاف في الأمة: ضعفت وهزلت، وأصبحت أمةً سقيمةً مريضة، وحلُّها أن يكون السائد فيها والقائد كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أنت أخي وأنا أخوك، مصحفنا واحد، وعلمنا واحد، ورسولنا واحد، وقبل ذلك ربنا واحد تبارك وتعالى، تخالفني في فرعية وأخالفك لكن هذا لا يجعلني أحمل الضغينة عليك، نعم أنت إن أصبت فمأجور ولك أجران، وإن أخطأت أنا فلي أجرٌ واحد لأني اجتهدت.
إذاً هذا هو التعصب المذهبي الذي مرت به الأمة، ولا يقال للناس: الاختلاف رحمة، وردت هذه الكلمة عن ابن تيمية، لكن جمع الكلمة هو الأحسن، وهو الأقوى، وكلما توحدت الأمة كان أحسن، والخلاف مذموم دائماً {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:١١٨] قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:١٠٥] قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:١٠٣] قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٩٢] إذا علم هذا فالأمة أمة واحدة.