ومن الجود ومن منازله الكبرى: الجود بالمال، ونحن في هذه البلاد نعيش رغداً وعيشاً هنيئاً مريئاً، نحن أثرياء بالنسبة للعالم، إن متوسط دخل الواحد منا يعادل دخل كثير من تجار العالم، فهل قدمنا لأنفسنا؟ هل قدمنا للقبر؟ هل قدمنا للصراط؟ هل قدمنا ليوم الكربات يوم الفضائح؟
لقد رأينا ورأيتم كثيراً من الناس يشكون العوز! مدين لا ينام الليل وأطفاله لا يجدون كسرة الخبز، لا يجدون قطعة القماش، يتقدمون بصكوك إلى أهل القصور، ويتقدمون بالدمعات الحارة إلى أهل المطاعم الشهية والملابس الوطية والمراكب الزهية، فيا أيها الناس! من فعل خيراً فإنما يفعل لنفسه، والله يقول:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:٢٦١].
الخير أبقى وإن طال الزمان به والشر أخبث ما أوعيتَ من زادِ
يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح:{إن لله ملكين يناديان كل صباح، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً} فمن أراد أن يخلف الله عليه وأن يبارك في رزقه وفي دخله، فلينفق على الفقراء، وعلى المجاهدين، وعلى المساكين، وفي مشاريع الخير، فهذا من باب البر.
كان الجاهليون وهم وثنيون يعبدون الأصنام والأوثان لا يرضون أن يعيش في مجتمعهم جائع ولا مسكين، كان ابن جدعان جاهلياً ما عرف لا إله إلا الله وما سجد لله، عنده صحاف تعرض كل صباح بلباب البر وبمسيل العسل، فينادي مناديه على جبل أبي قبيس في مكة: من أراد الإفطار فليأت فتمتلئ صحافه من المساكين، فإذا أتى الظهر قدم صحافه لحماً وخبزاً ثريداً، وقال: من أراد الغداء فليأت! يقول أمية بن أبي الصلت في آل جدعان أهل الكرم والجود:
لا ينكتون الأرض عند سؤالهم لتطلب الحاجات بالعيدانِ
بل يشرقون وجوههم فترى لها عند السؤال كأحسن الألوانِ
وإذا الغريب أقام وسط رحالهم ردوه رَبَّ صواهلٍ وقيانِ
وإذا دعا الداعي ليوم كريهة سَدُّوا شُعاعَ الشمس بالفرسانِ