[لكل امرئ ما نوى]
رُوِي عن أبي هريرة في الحديث الصحيح عن شفي الأصبحي قال: {دخلت المدينة فوجدت الناس مجتمعين على أبي هريرة فقلت: مَن هذا؟ قالوا: أبو هريرة، قال: فزاحمت حتى جلست بجانبه واقتربت منه، وقلت له: يا أبا هريرة! قال: نعم.
قلت: حدثني بحديث سمعته أنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعته من رجل آخر غيره، قال: فبكى ثم رفع طرفه وقال: والله لأحدثنك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعته من رجل غيره، قال: ثم اندفع يحدث، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم منهم عالماً حاسبه الله عز وجل وأحضره وقال: علمتك العلم ولقنتك الحكمة فماذا فعلت؟ فقال هذا: يا رب! علَّمت الجاهل ونفعت الناس، ودعوت في سبيلك، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: إنما تعلمت ليقال عالم وقد قيل، خذوه إلى النار، فيسحبونه على وجهه حتى يلقى في النار، ثم يؤتى بالجواد الكريم فيقول الله عز وجل: أما خولتك مالاً؟ فيقول: نعم يا رب! قال: فماذا فعلت؟ وهو أعلم، قال: أطعمت الجائع، وأعطيت المسكين، وبذلت أموالي في سبيلك، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: إنما فعلت ليقال: جواد، وقد قيل، خذوه إلى النار، فيسحبونه على وجهه حتى يلقى في النار، ثم يؤتى بالشجاع فيُفعل به هكذا}.
ولما أُخْبِر معاوية بهذا الحديث بكى حتى خضَّبت دموعُه لحيتَه وقال: [[صدق الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:١٥ - ١٦]]] فمن أراد الرياء راءَى اللهُ به، كما في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة: {مَن راءَى راءَى اللهُ به، ومَن سَمَّع سَمَّع اللهُ به} ومَن أراد الظهور مُنِحَ الظهور؛ لكن لا حظَّ له عند الله، ومن أراد المنزلة عند الناس ولم يرد ثواب الله أعطاه الله ما تمنى في الدنيا وحرمه ثواب الآخرة: {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:٢٦].
وفي صحيح مسلم عن عدي بن حاتم أنه قال: {يا رسول الله! إن أبي كان يُقْرِي الضيف، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الحق، فهل ينفعه ذلك عند الله شيئاً؟ - يقصد أباه حاتم الطائي الجواد المشهور- فقال صلى الله عليه وسلم: لا.
إن أباك طلب شيئاً فأصابه فلا حظَّ له عند الله} طلب الذكر في الدنيا والمنزلة، وطلب الصيت فحصل عليه، وإلى اليوم فإنا نسمع ويتردد في جنباتنا بعد قرون مديدة حاتم الطائي؛ لأنه طلب الدنيا فأعطاه الله ما تمنى، لكن لا حظَّ له في الآخرة، وحيل بينه وبين ما يشتهي عند الله؛ لأنه ما طلب الآخرة وما أرادها، قال تعالى: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:٢٠] يعطي من أراد الدنيا من الدنيا، ويعطي من أراد الآخرة من الآخرة.
وكذلك ابن جدعان القرشي، كان من أكرم كرماء العرب، وهو الذي يقول فيه أمية بن أبي الصلت:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إنَّ شيمتك الحياءُ
إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناءُ
ففي صحيح مسلم أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: {قلت: يا رسول الله! إن ابن جدعان كان ينفق، وكان كريماً، فهل ينفعه ذلك عند الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا، والذي نفسي بيده، إنه لم يقل مرة من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين} ما مرت على لسانه هذه الكلمة، ولا تذكر الآخرة، فكيف ينفعه هذا العمل؟
يذكر أهل السير وأرباب التاريخ أن زبيدة امرأة هارون الرشيد التي أجرت عين زبيدة المشهورة في مكة للحجيج، فشربوا وسَقوا بعد ظمأ وحاجة للماء، لما تُوفِّيت رآها ابنها الأمير في المنام، فقال: " يا أماه! ماذا فعل الله بك؟ قالت: كدتُ أهلك -كدت أعذب عذاباً ما يعذبه الله أحداً من الناس- قال: لماذا؟ قالت: ما نفعني بعد الفرائض إلا ركعتين في السحر، كنت إذا ركعت ركعتين في السحر أقول: لا إله إلا الله أقضي بها عمري، لا إله إلا الله يَغْفِر بها ربي ذنبي، لا إله إلا الله أقف بها في حشري، لا إله إلا الله أدخل بها قبري، قال: يا أماه! وعين زبيدة! أما نفعتكِ؟ قالت: والله ما نفعتني أبداً، قال: ولماذا؟ قالت: لأني ما أردت بها وجه الله ".
وقد ذُكرت هذه القصة في سيرتها وفي ترجمتها لمن أراد أن يرجع إليها.
فكل عمل لا يراد به وجه الله قليل وزهيد وحقير، لا نفع فيه ولا بركة، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:٢٣] ولذلك كان الصدق والإخلاص هو الباب الأول من أبواب الدخول إلى العبودية الحقة، فهو يقترن مع مقامات كثيرة لكنه شرط أكيد في صحة الأعمال، فلا عمل لمن لا إخلاص له، ولا إخلاص لمن لا متابعة له.
وواجبنا في الإخلاص أن نصدق النية مع الله عز وجل، يقول عز من قائل: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:٢١].
{أتي أحد الأعراب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فأسلم وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم، فأتت الغنائم فأعطاه صلى الله عليه وسلم من الغنائم، فقال الأعرابي: غفر الله لك يا رسول الله! ما بايعتك على الغنائم ولا على أخذ شئ من المال، قال: فعلامَ بايعتني؟ قال: بايعتك على أن يأتيني سهم غرب - أي: طائش - فيقع هنا ويخرج من هنا، فيقول عليه الصلاة والسلام: إن صدقتَ الله فسيصدقك الله.
فلما أتت المعركة قتل الأعرابي، فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم السهم وقد وقع في لبته وخرج من قفاه فقال: صدقتَ الله فصدقكَ الله}.