ثم قال البخاري رحمه الله تعالى: إن عروة بن الزبير أخبره -أخبر الراوي- أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته قالت:{جاءتني امرأة عندها ابنتان تسألني فلم تجد عندي غير تمرة واحدة فأعطيتها، فقسمتها بين ابنتيها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته، فقال: من ولي من هذه البنات شيئاً فأحسن إليهن كن له ستراً من النار} وفي لفظ: {من يل}.
عائشة رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق، المطهرة، المبرأة من فوق سبع سماوات كانت جالسة في بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم، فدخلت عليها امرأة تسأل من مال الله عز وجل، ومن عطاء الله، وكانت جائعة وابنتاها جائعتان، وكان بيته صلى الله عليه وسلم كبيت أحد الفقراء ليس فيه شيء، حتى تقول عائشة: ربما يمر علينا الهلال بعد الهلال لا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار، إنما طعامهم الأسودان التمر والماء، فكان عليه الصلاة والسلام في بيته متقشفاً، وربما يأكل اللحم إذا وجده والخبز والتمر، وكان يهدى إليه صلى الله عليه وسلم اللبن، فكان مع جيرانه صلى الله عليه وسلم من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم.
فدخلت هذه، فبحثت عائشة في بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم، فما وجدت إلا تمرة واحدة، سبحان الله! نعيش اليوم في نعم جليلة، لا نستطيع شكرها، نسأل الله أن يبلغنا شكرها، وما حقها إلا أن نثني على الله بها، فإن الله إذا أنعم على العبد يريد أن يثني العبد على الله بنعمه، ويريد سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن تشكر؛ قال تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم:٧] ويوم يرى الله العباد يأكلون ويتمتعون ويسرحون ويمرحون ثم لا يشكرونه يسلبهم النعم، ويبتليهم بالفقر والجفاف والجوع والحرب المدمر.
فقامت فما وجدت إلا تمرة، فهل تقدم التمرة أم لا؟ ورد في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها ذات مرة ما وجدت إلا عنبة فأعطتها فقيراً، قال لها رجل: العنبة ماذا فيها؟ قالت: إن فيها ذرات كثيرة، والله يقول:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}[الزلزلة:٧ - ٨] ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلْق -أو طلِق، أو طليق-} أي: لا تحقر شيئاً من المعروف، ولا تظن أن هذا لا يحسب لك، حتى ولو أن تتبسم في وجوه المسلمين، وأن تهش وتبش، فإن هذا من المعروف.