للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[واقعنا عندما اتبعنا الهوى]

ومما وقعنا فيه أنها وقعت عندنا طوائف وفرق ومذاهب كالحنابلة والشافعية والمالكية وبعض الجماعات على ما فيها من خير، وأقول: إن فيها خيراً وإنه نصر بها الإسلام والدين، لكن وقع من بعض المنتسبين إليها ظلم وجهل، فبعض المنتسبين للجماعات أو المذاهب يقول: المذهب الصحيح -مثلاً-: مذهب الحنابلة وغيره من المذاهب لا يصح، حتى إن بعضهم يقول: الحق مع الشافعية لكن ننتصر لمذهبنا رياضة! ويذكر بعض الأحناف في كتبهم حديثاً عنه صلى الله عليه وسلم: {أبو حنيفة سراج أمتي}.

وهذا حديث كذب موضوع، وبعضهم يقول: يقول صلى الله عليه وسلم: {ينزل عيسى بن مريم على مذهب أبي حنيفة}.

وهذا حديث كذب موضوع إلى غير ذلك من الأحاديث، وبعضهم يقول: إن لم يكن الحق للأحناف فما أدري أين يكون الحق، وبعضهم يقول: على الأمة أن تتبع الشافعي لأنه من أسرة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هاشمي، وهو أولى الناس بالاتباع، حتى إن ابن حجر في فتح الباري على جلالته رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم: {الأئمة من قريش} قال: وفي الحديث دليل على أن الشافعي المقدم لأنه من قريش، وابن حجر شافعي، فأعجبه هذا الحديث فقال به.

ومنهم من ينتسب مثلاً إلى الإخوان أو إلى السلفيين أو إلى التبليغيين أو السرورين أو إلى جماعة، فيقول: الحق في هذه الجماعة، وهذه هي المقصودة، حتى بعض المنتسبين من الجهلة يقول: هي المقصودة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة}.

وبعضهم كتب كتاباً المتساقطون في الطريق، وهم الذين خرجوا من الجماعة فيقول: هؤلاء ضلوا وسقطوا في الطريق، مع العلم أنه قد يظهر للإنسان أن المصلحة أن يخرج من الجماعة، أو أن من المصلحة ألا يتبع هذه الجماعة فقد تحبسه من علم أو دعوة أو قد لا يناسب هو الجماعة أو يكون الخير له ألا ينتسب لها.

فأقول: هذه الجماعات فيها خير ونصر بها الحق، لكن لا يجوز لأحد أن يقول: كل الحق في هذه الجماعة وغيرها باطلة، أو يقول: هذه الجماعة هي الجماعة التي يرضى الله عنها وغيرها يغضب الله عليها، أو يقول: كلما جاء من هذه الجماعة فهو الصحيح، حتى إن بعضهم لا يسمع إلا لأشرطة من كان من دعاة جماعته، ولا يحضر إلا لخطباء جماعته، ولا يقرأ إلا لجماعته، ولا يطلع إلا على ما يكتبه جماعته أو كتبه جماعته، ولا يمدح إلا لمن انتسب إلى جماعته، وبالمقابل تجده يقدح في خطباء الغير وفي شعرائهم ودعاتهم وعلمائهم وهذا من الهوى، وفيه حظ من قوله سبحانه وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:١١٣].

ومن أوجب على الأمة أن تتبع مذهباً من المذاهب أو جماعة من الجماعات -قلت لكم-: يستتاب هذا فإن تاب وإلا قتل وهي كفتوى شيخ الإسلام في بعض المسائل التي شابهت هذه المسألة بالقياس.

وقال عليه الصلاة والسلام: {لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتى بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، فقيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك} رواه البخاري في كتاب الاعتصام.

فأخبرنا عليه الصلاة والسلام أنه سوف يقع من أمته من يفعل ذلك.

ومن الناس من يتحزب لشيخ فيقول: هذا الحق مع الشيخ وعليك بسماع أشرطته ولا تسمع لغيره، وبعض الناس يتعصبون لشيخهم من أقليمهم أو من مدينتهم أو داعية من محلتهم، ويتنقصون الدعاة الآخرين، وهذا من الظلم والعدوان، بل على الإنسان أن يقبل الحق من أي أحد سواء كان من الشمال أم من الشرق أم من الغرب أم من الجنوب، من العرب أم من العجم، فإن دين الله عز وجل موزع في الناس.

وقال ابن تيمية: ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون، غير أن فرعون قدر فأظهر وغيره عجز فأضمر.

وهذا كلام جيد.

يقول: كل نفس تحمل ما تحمل نفس فرعون لكن فرعون قال: أنا ربكم الأعلى وغيره استحيا من الناس، وإلا فإن النفوس محشوة بحب الرياسة وحب العلو في الأرض وحب التعالي على الأقران، إلا من عصم ربك ومن هذب الله عز وجل بالإيمان والعمل الصالح.

كان ابن عمر يسجد عند المقام عند الكعبة ويقول: [[اللهم إنك تعلم أني ما تركت الخلافة إلا من مخافتك]].

والله يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:٨٣].

وفي صحيح مسلم: {أن سعد بن أبي وقاص كان في البادية، فأتاه ابنه والناس يختلفون على الخلافة بين علي ومعاوية، وأبوه من أولى الناس بالخلافة فهو أحد العشرة، فقال: يا أبتاه! يقتتل الناس على الملك وأنت ترعى الضأن في الصحراء، قال: اغرب عني فإني سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: إن الله يحب العبد الغني الخفي التقي}.

ورأيت في ترجمة إبراهيم بن أدهم من تواضعه ومسكنته ومن ترك العلو والكبر أنه مر بدارة في بغداد، فخرجت امرأة بصحن من رماد تريد أن ترميه في الزبالة وهو حار فيه جمر، فرمت بالصحن بما فيه من رماد فوقع على رأس إبراهيم بن أدهم الزاهد العابد الكبير، فأخذ يحتحت الرماد، فخرج أهل المحلة وأهل الحارة يعتذرون منه، فقال: لا عليكم، من استحق النار وصولح على الرماد فهو ناج بإذن الله.

يقول: أنا أخاف من نار جهنم وما دام المسألة مسألة رماد فالمسألة فيها خير.

<<  <  ج:
ص:  >  >>