وقد يبتلي الله عز وجل الإنسان في جسمه بفوت أعضائه، فالعقل نعمة من أعظم النعم، بل هي تأتي بعد نعمة الدين، ولكن إذا حكم الله بسلب عقل هذا المخلوق وأخذ عقله، فمالك إلا أن تسلم وتحتسب.
عن عطاء بن أبي رباح في الصحيحين، قال: قال لي ابن عباس: يا عطاء! ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بأبي أنت وأمي نعم، قال: هذه المرأة السوداء، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:{يا رسول الله إني أصرع -أي: يصيبها مس من الجان فتصرع- فادع الله لي، قال: إن شئت دعوت الله لك، وإن شئت صبرت واحتسبت ولك الجنة -ما أحسن الخيارين! وما أحسن الخيار الثاني! عرض عليها خطتين، وخيرها بين طريقين، وأنزلها منزلتين- فقالت: أصبر وأحتسب، ولكني أتكشف فادع الله لي يا رسول الله! فدعا لها ألا تتكشف} فهي من أهل الجنة تمشي على الأرض؛ لأنها احتسبت عقلها وهو من أعظم النعم، فلما فوضت الأمر إلى الحي القيوم، جازاها الله بجنة عرضها السماوات والأرض.
والله عز وجل قد يبتلي عبده بالبصر، والبصر نعمة من النعم الجليلة، يوم ترى الحياة، وتذوق الجمال، وتتعرف على الأشياء والذوات والأشخاص بالعينين الجميلتين، لكن إذا حكم الله بطمس نورهما، فمالك من حيلة إلا الصبر والتسليم، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: {من ابتليته بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة} ما أحسن الكلام! وما أحسن إيراد الحديث! لم يقل عينيه، وإنما قال حبيبتيه؛ لأنه يحبب العينين إلى صاحبها، فكأنها أحب إليه من كل شيء، فيقول: من ابتليته، ولم يقل من أخذت عينيه، وإنما قال: ابتليت ليبين أن هناك أجراً ومثوبة، وأن هناك كنزاً مدخراً، وأن هناك جنة وموئلاً، فقال:{من ابتليته بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة} وما أحسن الجنة!
قالوا لـ يزيد بن هارون الواسطي -كما في سير أعلام النبلاء والتذكرة وهو شيخ الإمام أحمد، ومن حفاظ الدنيا، ومن رجال البخاري ومسلم، ومن أهل واسط، بل عالم واسط الوحيد- لما ذهبت عيناه، فقيل له: يا أبا خالد! أين ذهبت العينان الجميلتان؟ قال: أذهبهما والله بكاء الأسحار، لكن معه {عوضته عنهما الجنة}.
وابن عباس حبر الأمة عمي في آخر حياته، فأتاه بعض الشامتين يعزيه استهزاء في عينيه، فعزاه في عينيه، فعلم ابن عباس أنه شامت فقال:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
عقلي ذكي وقلبي غير ذي عوج وفي فمي صارم كالسيف مشهور
صدق رضي الله عنه، إن يأخذ الله نور العين، ففي القلب نور وبصيرة، وإن يأخذ الله ضياء هاتين العينين الجميلتين، ففي الروح ضياء خارق مشع يبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وما حيلة الإنسان إلا أن يصبر.
ذكروا عن ابن هبيرة صاحب الإفصاح، الحنبلي الوزير الشهير الكبير التقي، الذي دعا الله في يوم منى بالغيث، فسقوا الغيث وهم في يوم منى، فقال وهو يبكي: يا ليتني دعوت الله بالمغفرة! وكان وزيراً للمستنجد العباسي، وقد أدركه ابن الجوزي، بل كان ابن الجوزي من أصحابه، فدخل عليه أحد الناس فسلم له ابن هبيرة جائزة ومسح على رأس هذا الشخص، ثم ذهب الشخص، فقال له الناس يا بن هبيرة! مالك أعطيته ومسحت على رأسه؟ قال: هذا عرفته ولم يعرفني، ضربني مرة على رأسي فذهبت عيني منذ ثلاثين سنة ما أخبرت أحداً بها، ما أخبر أحداً؛ لأن الشكوى إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.