للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[إحساس عمر بقرب أجله]

وبعد أن انتهى ذهب ليرمي الجمرات، فرماه أحد الحجاج بحصى في رأسه فسال دم عمر، فقال عمر: [[هذا قتلي]] معناه أني سوف أقتل!!

علوٌ في الحياة وفي الممات

فهو لا يموت بل يقتل، لا كما يموت الذين يموتون بالتخم في غرف الباطنية من كثرة ما أكلوا وشربوا وما قدموا شيئاً.

لهم شموخ المثنى ظاهراً ولهم هوى إلى بابك الخرمي ينتسبُ

فلما انتهى من مناسك الحج جلس بـ الأبطح واتكأ على يده اليسرى ثم رفع يده اليمنى مع اليسرى، وقال: [[يا ربِ! شابت شيبتي، ورق عظمي، ودنى أجلي، وانتشرت رعيتي، اللهم فاقبضني إليك غير مفرطٍ ولا مفتون، اللهم إني أسألك شهادةً في سبيلك، وموتة في بلد رسولك]].

علوٌ في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزاتِ

ومالك تربةٌ فأقول تسقى لأنك نصب هطل الهاطلات

ولما ضاق بطن الأرض عن أن يواروا فيه تلك المكرماتِ

أصاروا الجو قبرك واستعاضوا عن الأكفان ثوب السافيات

رجع إلى المدينة وهو يتمنى الشهادة، قالت له ابنته حفصة: [[يا أبتاه! موتٌ في سبيل الله، وقتلٌ في مدينة رسول الله! إن من أراد أن يقتل فليذهب إلى الثغور -إلى الحدود- قال: هكذا سألت الله، وأرجو أن يلبي ربي لي ما سألت]] هذا السخاء والبذل أن تجود بدمك إلى الله، كان أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام إذا حضروا المعارك، لبسوا الأكفان من تحت الثياب.

أكفانهم بدماء البذل قد صبغت الله أكبر من سلسالها رشفوا

في كفك الشهم من حبل الهدىطرفٌ على الصراط وفي أرواحنا طرفُ

لا شهداء الوطنية والماركسية والضياع والإلحاد.

وصل عمر إلى المدينة، ورأى في المنام أن ديكاً ينقره نقرتين أو ثلاثاً، فعرض الرؤيا، فقالوا: [[يقتلك رجلٌ من العجم]] فقام وخطب الناس وأخبرهم أنه لن يستمر، وأنه سوف يغادر إلى غير هذه الدنيا، إلى أين؟ إن شاء الله إلى مقعد صدقٍ عند ملكٍ مقتدر، إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض.

تأخرت عن وعد الهوى يا حبيبنا وما كنت عن وعد الهوى تتأخرُ

سهرنا وفكرنا وسالت دموعنا وشاخت ليالينا وما كنتَ تحضرُ

أيا عمر الفاروق هل لك عودةٌ فإن جيوش الروم تنهى وتأمرُ

رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا

نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقُصرُ

وليمون يافا يابسٌ في حقوله وهل شجرٌ في قبضة الظلم يثمرُ

صلَّى الجمعة ونزل، واستمر في الحياة ساعات، ودَّعَ الدنيا، وليس عنده شيءٌ من الدنيا يقسمه، فعنده بيت من الطين وفراشٌ من حصير وجبة وعصا، هذه دنيا عمر.

فأين السجلات؟ حسناتٌ عند الله!

وأين الميراث؟ عقيدةٌ خالدة!

وأين التركة؟ مبادئ رشيدة تثبت ثبوت الدنيا!.

صلى الفجر وأتاه أبو لؤلؤة عليه لعنة الله، مجوسي مجرم ما سجد لله سجدة، فقد دبر المجوس قتل عمر لينهوا هذا الطود الشامخ.

مولى المغيرة لا جادتك غاديةٌ من رحمة الله ما جادت غواديها

مزقت خير أديمٍ حشوه هممٌ في ذمة الله عاليها ودانيها

>>

أتى وعمر يصلي، وقد بدأ عمر بعد الفاتحة بسورة يوسف، وكان يحب سورة يوسف، وكان في صوته صحل يخرج من قلبه، فلما وصل إلى قوله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:٨٤] انهد يبكي، فبكى الناس جميعاً حتى سمع النشيج من آخر الصفوف، ثم قال: الله أكبر، وهذه التكبيرة كانت آخر تكبيرةٍ له في الحياة، ركع، فتقدم أبو لؤلؤة بالخنجر المسموم، فطعنه ست طعنات ثلاث ضربات فوقع عمر وهو يقول: [[حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلتُ، وهو رب العرش العظيم!!].

وتقدم ابن عوف، وما أخلت الصفوف وما خرج أحد من الصف، لأن هذه الأمة كانت تصلي والسيوف تضرب على رءوسها في المعركة:

نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا

جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا

فهي أمة تصلي ورءوسها تقطع في الأرض؛ لأنها تحب الله.

تقدم ابن عوف فأكمل الصلاة سريعاً، وعاد الناس إلى عمر، وقد فقدوا صوته.

أين صوتك؟! أين صوت الحاكم؟! أين صوت الحبيب؟! أين صوت العادل؟!

أصبح في سكرات الموت، ماذا يقول؟ يقول: من قتلني؟ قالوا: قتلك أبو لؤلؤة المجوسي، قال: الحمد لله الذي جعل قتلي على يد رجلٍ ما سجد لله سجدة.

لا إله إلا الله! لك الحمد يا رب أن زكيت المحراب بدم عمر، وزكيت دم عمر بالمحراب!

رفعوا جثمانه، فكان يفتح عينيه، وهو يقول: هل صليت -أي هل أكملت الصلاة؟ - قالوا: لا.

قال: الله المستعان! كل أمنياته أن يكمل الصلاة ليلقى الله وقد صلى صلاة الفجر، لم يسأل عن ولاية أو ولد، ولا عن بلد أو زوجة أو ميراث!!

كانت دماؤه تسيل طاهرةً على الثياب، يقول بعض الصحابة: ظننا أن القيامة قامت يوم مات عمر!!

من لجسمٍ شفه طول النوى ولعينٍ شفها طول السهر

جسدٌ لُف في أكفانه رحمة الله على ذاك الجسد

<<  <  ج:
ص:  >  >>