صعودٌ أبداً وتفوقٌ دائماً
دُريد بن الصمة جاهلي من أهل الطائف، خرج مع أخيه عبد الله، ونصحه ألا يواجه العدو، فلمَّا حضرت المعركة اجتمع العدو على أخيه عبد الله فقتلوه، فسمع دُريد الشاعر أخاه عبد الله في النَّفَس الأخير، وهو يقول: يا دُريد، يا دُريد، يا دُريد! فتنبعث هذه الصرخات إلى دُريد وهو في آخر المعسكر، وبينه وبين أخيه سيوف ورماح، فأخذ دريد في يمينه سيفاً وفي يساره رمحاً، فشق الصفوف، ووصل إلى أخيه، وطعن عنه الخيل، وضارب الأبطال حتى جرح ثم حُمل، فإذا أخوه ميت وهو حي، فقال في قصيدةٍ وهو يبكي عند أمه يخبرها بخبره وبخبر أخيه:
دعاني أخي والخيل بيني وبينه فلما دعاني لم يجدني بقعدد
فطاعنتُ عنه الخيل حتى تبددت وحتى علاني حالك اللون أسود
حالك اللون أسود: أي: الدم.
وهذه من أرقى وأجمل القصائد، حتى أن أبا تمام جعلها في الحماسة.
طعان امرئ آسى أخاه بنفسه ويعلم أن المرء ليس بمخلدِ
وخفف وجدي أنني لم أقل له كذبتَ ولم أبخل بما ملكَت يدي
وجدي: أي حُزني على أخي.
فبكى هو وأمه حتى كادت روحه تذهب.
هذه من قيم الجاهلية؛ أما قيم أهل الإسلام فإنها متمثلة في سير الصالحين رضوان الله عليهم، في سبعة أسياف تُكسَّر في يد من؟
في يد خالد بن الوليد، وفي تسعة أسياف يُطعن بها محمد بن حميد الطوسي، فيقول له أبو تمام:
تردَّى ثياب الموت حُمراً فما دجا لها الليل إلا وهي من سندس خضرُ
فتى كلما فاضت عيون قبيله دماً ضَحِكَت عنه الأحاديث والذكرُ
أختم كلامي بقصة قصيرة في سمو الهمم عند بعض الناس:
عمر بن أبي ربيعة: شاعر غزل، يظن أن الدنيا اختُصِرت في امرأة، ويظن أن العالم يقف معه، ويبكي من أجل العيون السود، يظن أن الكون بأجمعه مُوَلَّه معه بفتنة النساء، ولم يدرِ بجنات ونَهَر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
حورٌ، وأرائكُ، ولباسٌ، ونعيمٌ، وأجلُّه النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى في دار الكرامة.
وابن أبي لهب: أيضاً شاعر في صدر الإسلام.
وابن عمر: من مدرسة محمد عليه الصلاة والسلام.
هؤلاء ثلاثة.
يقول ابن عبد البر: مر الثلاثة بالشيب، وقد أمر معاوية ألا يدخل أحد إلى الحرم إلا بإذنه، والجنود حرَّاسٌ على الأبواب، عندهم أمر من الخليفة معاوية ألا يدخل أحدٌ إلى الحرم؛ لأنه يريد أن يطوف هو قبل الناس؛ لأنه خليفة وملك، فمرَّ ابن أبي ربيعة في ظلام الليل، قال الحراس: من أنت؟
قال بجواب يحوي بطاقته الشخصية في بيتين:
بينما يذُكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر
قال تعرفن الفتى، قُلن نعمْ قد عرفناه، وهل يخفى القمر؟!
قالوا: تفضل ادخل! فدخل.
فأتى ابن أبي لهب، وهو شاعر ثانٍ، فقالوا: من أنت؟ قال، وهو أسمر:
وأنا الأخضر من يعرفني أخضر الجلدة من نسل العربْ
من يساجلْني يساجلْ ماجداً يملأ الدلو إلى عقب القرَبْ
يقول: أنا إن ترد كرماً فكرمٌ، وإن ترد لهواً فلهوٌ، وإن ترد طرباً فطربٌ، فأنا حر.
فأتى ابن عمر، قيل: وإذا الناس كنَفَتَيْه كالغمامتين، وإذا هو يُسأل فيقال له: نحرتُ قبل أن أرمي، فيقول: ارم ولا حرج، ويقال: حلقتُ قبل أن أنحر، فيقول: انحر ولا حرج، والناس يسألونه، قال معاوية: هذا -والله- هو الملك لا ملكي، اتركوه يمر، فمرَّ ابن عمر.
فهذه مدرسة محمدية سنية سلفية هادية، تعتمد على (قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام) وتلك مدرسة لاغية لاهية، تعتمد على أدب المسرح، والفن، والهيام والغرام، والقنوات، والأغنيات، والآهات والزفرات، وكل شيء يضيع عن الآيات البينات والأحاديث الثابتات.
ربنا اسلك بنا طريق محمد.
ربنا اهدنا لسبيل الخلفاء الراشدين.
ربنا احشرنا مع الصادقين.
ربنا اجعلنا مع الخالدين.
ربنا نريد جوارك.
ربنا ارحمنا.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران:١٤٧].
أخطأنا أسأنا تجاوزنا؛ لكنك رحيم، لكنك كريم، لكنك عفو، لكنك منان، لكنك رحمان، لكنك ديَّان، فعفواً منك يا ألله، ورحماك يا رب.
اللهم أكرم هذه الوجوه برحمةٍ منك، ومغفرةٍ منك، ونوائل طيبةٍ منك.
لكل وافد ضيافة، ولكل زائر رَفادة، ضيافتنا منك يا رب غفرانك، ورفادتنا رضوانك، وأنت الرحمان.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.