[دروس من حديث سهل بن سعد]
نعود إلى حديث سهل في الصحيحين، قال عليه الصلاة والسلام: {لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فأمسى الناس يدوكون ليلتهم كلهم يرجو أن يعطى الراية -ليس حباً في الإمارة، لكن في البشرى- قال عمر: ما أحببت الإمرة مثل ليلة أمس -أي: ما أحب الإمرة إلا تلك الليلة وفي الصباح الباكر بعد أن صلى عليه الصلاة والسلام الفجر، قال: أين علي بن أبي طالب؟ -هذه مواصفات علي سيف الله المنتضى، الإمام المرتضى أبو الحسن، نتقرب إلى الله بحبه وننزله المنزلة الرابعة بين الخلفاء الراشدين، ونتولاه حباً في الله خالصاً إلى أن نلقى الله - قال: أين علي بن أبي طالب؟ قال الصحابة: يا رسول الله! هو في خيمته به رمد لا يرى شيئاً - في عينه مرض الرمد لا يرى شيئاً- قال صلى الله عليه وسلم: عليَّ به، فذهب الصحابة إليه وأتوا يقودونه لا يرى مد يده، فأخذوه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: اذهب وخذ الراية، قال: يا رسول الله! والله ما أرى مد يدي.
فنفث عليه الصلاة والسلام في عينيه، فأبصر بنور الله، ثم أعطاه الراية، وقال: اذهب فوالذي نفسي بيده لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
وفي هذا دروس:
أولها: أن أعظم مواصفات العبد حب الله وحب الرسول عليه الصلاة والسلام، ولذلك جاء في السيرة في معركة أحد قبل المعركة، قام صلى الله عليه وسلم، فقال للناس: أتريدون القتال داخل المدينة أو عند أحد؟
فقالوا: في المدينة.
فقام شاب، فقال: اخرج بنا يا رسول الله إلى جبل أحد، لا تمنعني دخول الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلن الجنة، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: بم تدخل الجنة؟
قال: بخصلتين: بأني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف.
أتدري ما علامة الحب؟ أتظن أن علامة الحب أن يجلس الإنسان في المجلس ويتمدح بحب الله وبحب رسوله، ثم يترك الصلوات في المسجد ويصلي في البيت؟! أتظن أن حب الرسول عليه الصلاة والسلام دعاوى فارغةٍ، وبالوناتٍ منتفخةٍ، وبيته يوسوس فيه الشيطان باللهو وبالغناء الماجن، وبالمسلسلات الخليعة وبالمسرحيات العابثة، وهو معرض عن الله؟! أتظن أن حب الله وحب الرسول كلمة تقال باللسان، وهذا العبد عبد لشهواته ومعاصيه ونزواته وإعراضه عن الله، فأين حب الله وحب رسوله؟!
اسمع إلى نماذج الحب، يقول سعد بن أبي وقاص: حضرنا في معركة أحد مع الصحابة قبل المعركة ومعنا عبد الله بن جحش أحد الشباب في الثلاثين من عمره، قال: فدعوت أنا وإياه قبل المعركة فأما أنا فدعوت بالنصر للمسلمين، وأما عبد الله بن جحش فقال: اللهم لاق بيني وبين عدوٍ لك -أي: من الكفار- شديد حرده، قوي بأسه، فيقتلني، فيبقر بطني -أي: يشق بطني- ويجدع أنفي، ويفقأ عيني، ويقطع أذني، فإذا لقيتك يا رب يوم القيامة في هذه الصورة، تقول: يا عبد الله! لم فعل بك هذا؟ فأقول: فيك يا رب.
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألم
وحضرت المعركة وانتهت، قال سعد: وبحثت في القتلى فوجدت عبد الله بن جحش مقتولاً، قد جدع أنفه، وبقر بطنه، وفقئت عيناه، وقطعت أذناه، فسألت الله أن يلبي له سؤله.
أليس هذا هو الحب؟ بل أصدق الحب وأعلى الحب.
يا ضعيف العزم! إن بخلت بركعتين في مسجد، أو بصدقة على مسكين، أو بذكر في الغدوات والعشيات، أو بقراءة القرآن لتنقد نفسك من النار، فإن جعفر الطيار قطعت يمينه، فأخذ الراية باليسرى فقطعت، فاحتضن الراية، فكسروا الرماح والسيوف في صدره، فوقع على الأرض وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم رومٌ قد دنا عذابها كافرةٌ بعيدةٌ أنسابها
عليَّ إن لاقيتها ضرابها
هذا موقف الحب معه عليه الصلاة والسلام، وعلي بن أبي طالب لا نغلو فيه غلو بعض الناس حتى وصلوا به إلى درجة الألوهية، ولا نجفو فيه جفاء بعض الناس حتى كفروه -والعياذ بالله- لكننا نشهد أنه إمام مرتضى، وأنه أمير المؤمنين، وأنه حبيبنا، وأنه من أصدق الناس، وأخشى الناس، وأتقى الناس لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
خلَّفه عليه الصلاة والسلام في المدينة لما خرج إلى تبوك أميراً على أهل بيته، لأنه كان قوياً أميناً فيه شبه من موسى عليه السلام، فخرج عليه الصلاة والسلام، فجاء المنافقون أهل الخرافات، وقالوا: يا علي! تثاقل منك الرسول صلى الله عليه وسلم فأخرك مع النساء والأطفال تثاقلاً منه، فخرج علي ولحق بالرسول عليه الصلاة والسلام على مشارف المدينة، وهو يبكي ويقول: يا رسول الله! يقول الناس: إنك تثاقلت مني فخلفتني مع النساء والأطفال، فقال عليه الصلاة والسلام: {يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي} كان من أحب الناس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست مواصفات علي تؤتى بالخزعبلات التي يوردها الناس الذين يغالون في حبه، يقولون: سبب حبه أنه أخذ رمحاً فضرب به صخرة فخرج الماء مع الصخرة، وأخذ حجراً فرمى به فوقع في جبال الألب، لذلك يقول ابن تيمية في هذه الطائفة: هم من أجهل الناس في المنقولات، ومن أضلهم في المعقولات.
قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب
فإنني جاهلٌ بسيطٌ وصاحبي جاهلٌ مركب
ومواقف علي مع الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هي مواقف الولاء والحب، ومواقف الاتباع له عليه الصلاة والسلام، وما نبل أحد من المسلمين إلا باتباعه عليه الصلاة والسلام.