[انهزام المشركين بجنود الله والاستكشاف عن أخبارهم]
ويظلم الليل وتهب رياحٌ شديدة وراء الخندق، فتقتلع الأشجار وتأخذ الخيام فتلقيها على الأرض، أما ما دون الخندق -والمسافة بضعة أمتار- فنسيمٌ عليل بارد على القلب، فسبحان الله! يوم يُذكِّر المؤمنين يقول: انظروا كيف أرسلنا الرياح فهي هوجاء عاصفة تلقي بالشجر في هذه الناحية، وفي هذه الناحية نسيم، فيقول سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا}[الأحزاب:٩] ريحاً عاصفاً وجنوداً من السماء، وفي تلك الليلة الظلماء الدامسة أراد عليه الصلاة والسلام أن يعلم أخبار المعتدين وراء الخندق، قال حذيفة: كدنا من الظلام إذا مد أحدنا يده لم يرها، فيقول عليه الصلاة والسلام: من يذهب إلى الأعداء ويأتينا بخبرهم؟ فيسكت الناس جميعاً؛ لأن المسألة مسألة موت، لأنهم في جوع، وخوف، ومتلفة، وتعب وإعياء لا يعلمه إلا الله، فيقول صلى الله عليه وسلم:{من يذهب وهو رفيقي في الجنة} انظر إلى الجائزة، ليس هناك دراهم ولا دنانير، ولا مناصب ولا كراسي، ولا سيارات أو وظائف، أو قصور.
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
فيسكت المقاتلون، فيقول:{من يذهب وهو رفيقي في الجنة؟ فيسكتون، فيقول: قم يا حذيفة!} وهذا أمر لا يحتاج فتوى، فهذا أمر ولا بد أن ينفذ هذا الأمر إن كنت تؤمن بالله، قال حذيفة:{فلما سمعت اسمي ما كان لي من أمر الله، ولا من أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فقمت وبي من الجوع ما لا يعلمه إلا الله، وبي من الخوف ما لا يعلمه إلا الله -في ظلام لا يعلمه إلا الله- قال: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله} انظر ما أحسن الدعاء! وهو الآن أصبح في حراسة وحفظ الله.
يا واهب الآمال أنت حفظتني ورعيتني
وعدا الظلوم عليَّ كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
فذهب، قال: فوالله ما وجدت للخوف مكاناً في قلبي، وقال: مرةً أحبوا على يدي؛ لأنه في ظلام بين النخل لا يرى يده، ومرة أمشي حتى نزلت الخندق وذهبت ودخلت في جيش المشركين، فوجدتهم حلقاً حلقاً وأبو سفيان يتدفأعلى نارٍ عنده قد أوقدها، وهذا هو القائد العسكري للحملة كلها، وهو رئيس الحزب الائتلافي غطفان وقريش واليهود، قال حذيفة: فلما جلست رأيت الريح ما أبقت لهم خيمةً إلا أخذتها، وأخذت تكفأ القدور من على النار، فتجعله على وجهه:{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:٤٥] قال أبو سفيان وكان من أذكياء العرب: يا أيها الناس! إن الرياح لم تبق لنا قدراً ولا خيمةً إلا أخذتها، فالتمسوا فإني لا آمن أن يرسل محمد في هذا الليل من يأتيه بخبرنا، قال حذيفة: فقال أبو سفيان: كلٌ منكم يسأل من بجانبه، قال حذيفة: فخفت أن يسألني من بجانبي فسبقت وقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان، ونزلت إلى هذا وقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان، لأنه لو سكت وقالوا: من أنت؟ وأتى باسمٍ غريب أو كذب لكُشف فسبقهم.
قال حذيفة: فرأيت أبا سفيان قام على بعيره وقال: أيها الناس! إني مرتحل، كما قال تعالى:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً}[الأحزاب:٢٥] ردهم والغيظ والنار في صدورهم، لم ينالوا خيراً من الإسلام والمسلمين:{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً}[الأحزاب:٢٥].
ثم التفت الله إلى أبناء القردة والخنازير وقال:{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}[الأحزاب:٢٦ - ٢٧] فخرج أبو سفيان، وانفل هذا الحزب الظالم، الذي ائتلف لسحق الحق.