[وقفات مع حديث: (إن من الشجر شجرة)]
الحديث الثالث نقدمه على الحديث الثاني لبعض الحكم:
لأنه أشد ارتباطاً في مجال العلم، ثم نعود إلى الحديث الثاني إن شاء الله.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المؤمن، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله بن عمر: ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة} رواه البخاري وعقد على هذا باب عرض الإمام المسألة ليختبر ذكاءهم.
وعرض المعلم على الناس الأسئلة هو المطلوب، ولذلك يقولون: يختلف ذكاء وفهم المتعلم من الطالب وغيره على حسب فهمه للسؤال، ويذكر صاحب كليلة ودمنة إن كان صادقاً وأورده بعض أهل العلم عندما نقلوا أن علياً لما ذكروا له قتل عثمان رضي الله عنه، قال: [[أكلت يوم أكل الثور الأبيض]] فإن عثمان رضي الله عنه لما قتل علم أنه سوف يقتل هو بعده وفعلاً فعل ذلك، فذكر صاحب كليلة ودمنة حادثة الثور الأبيض والثور الأسود أنهما كانا شريكين، يأكلان من ضاحية، ويشربون من غدير، فأتى الأسد إليهما، فلما رأيا الأسد اجتمعا عليه فنطحوه فولى، فأتى إلى الثعلب الداهية وقال له: هنا في الوادي ثوران لم أستطع أن آكلهما، لأنهما ينطحاني إذا اجتمعا علي، قال: أرى أن تمني أحدهم حتى يباعد الآخر، وتثير بينهم العداوة فتأكل الأول، ثم تأكل الثاني، فأتى إلى الأسود فقال: أنت رفيقي وشقيقي وأخي وكذا، فدعنا نأكل هذا الذي أكل عليك المرعى، وشرب عليك الماء، قال: كله لا رده الله، فأتى الأسد فأكل الأبيض فلما انتهى أتى إلى الأسود فأكله.
فأورد الذهبي في سير أعلام النبلاء وابن كثير - أن علياً لما مات عثمان قال: [[أكلت يوم أكل الثور الأبيض]] يعني ما دام عثمان قتل رضي الله عنه، فمن يواجه هؤلاء المبتدعة، ولذلك يذكر صاحب كتاب كليلة ودمنة في باب اختلاف الناس في فهم السؤال، يقول: أتى الأسد فعرض فكاهة على الحيوانات، فضحك كل من حضر من الحيوانات في الحال إلا الحمار، فلما جاءوا في اليوم الثاني إذا به يضحك، قالوا: مالك يا أبا صابر؟! قال: ما فهمت الفكاهة إلا اليوم، فهو قد فكر أربعاً وعشرين ساعة، وفي اليوم الثاني فهم الفكاهة، فكل واحد يضحك على قدر فهمه.
فالمقصود من الحديث أن من فطنة العالم وذكائه أن يعرض السؤال ليرى أفهام الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في سؤال النخلة.
وقصة النخلة: أنه صلى الله عليه وسلم أتي بجمار، وهو قلب النخلة، وهو شيء أبيض يؤكل، وهو كالقماش الأبيض، فأتي به صلى الله عليه وسلم، والناس جلوس، لكن ابن عمر لمح هذا الجمار الذي وضع عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقية الصحابة لم يلمحوا هذا الجمار ولم يروه أو أنهم رأوه لكنهم لم ينتهوا، فلما جلسوا وسكتوا، ومضى شيء من الوقت؛ لأن من الحكمة أن تباعد السؤال عن القرائن، أما الأستاذ الذي يأخذ الطبشورة بيده، ويقول: ما هو الشيء الأبيض الذي إذا كتبت به على السبورة كتب؟
سوف يعرفون أنها الطبشورة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ هذا الجمار ووضعه في الأرض عليه أفضل الصلاة والسلام، فلما سكت الناس واستمر الحديث التفت إليهم وقال: إن من الشجر شجرة مثلها مثل المسلم حدثوني ما هي- ابن عمر كان صغيراً، والصحابة فيهم أبو بكر عمر وعثمان وعلي كبار قادة الإسلام وفاتحو الدنيا، والذين بنوا العدالة في المعمورة، فقال صلى الله عليه وسلم: {إن من الشجر شجرة مثلها مثل المسلم حدثوني ما هي؟ قال ابن عمر: فوقع الناس في شجر البوادي} بعضهم يقول: الطرفاء، وبعضهم يقول: السمر، وبعضهم يقول: السلم، وبعضهم يقول: الأثل، وبعضهم يقول: الخمط، قال ابن عمر: {ووقع في نفسي أنها النخلة} قال الحفاظ: فهم من الجمار الذي أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها النخلة، قال ابن عمر: {فاستحييت أن أتكلم} لأنه بين يدي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؛ لا يستطيع أن يقول: هي النخلة فيقول صلى الله عليه وسلم: نعم، بارك الله فيك، لكن من العلم الذي علمهم صلى الله عليه وسلم ومن الأدب الذي أدبهم أن يتأدبوا مع الكبير، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {كبر كبر}.
وسبب هذا الحديث أنه أتى عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة لما قتل أخوهم في خيبر فأتوا يتكلمون فقام الصغير فتكلم، قال صلى الله عليه وسلم: {كبر كبر} فتكلم محيصة قبله، فهو من أدبهم ألا يتكلم إلا الكبير.
فقال ابن عمر: {فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت} فسكت الناس أي: أنهم عجزوا عن الجواب، فقالوا: {حدثنا ما هي يا رسول الله، قال: هي النخلة} عليه الصلاة والسلام.
يؤخذ من هذا الحديث فضل النخلة، ونحن لا نقول: فضل النخلة قضية تكليفية نتعبد بها، لكن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وصف الكلمة الطيبة بالنخلة، وورد حديث عند البزار بسند جيد: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ في حديث أنس: {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم:٢٤] قال: أتدرون ما هي؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: هي النخلة}.