[بر الوالدين في حديث أصحاب الغار]
قال صلى الله عليه وسلم: {فإنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم -وهو الأول-: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران}:
الشيخان معروف أنهما كبيران لكن من باب التأكيد، أو من باب عطف المترادفات في الكلام، وإلا فكل شيخ كبير، والمشهور عندنا أن الشيخ شيخ العلم، لكن المشهور في لغة العرب أنه الكبير في السن، قال الشاعر:
زعمتني شيخاً ولست بشيخ إنما الشيخ من يدب دبيبا
فالشاعر: ينفي التهمة عن نفسه، والمعنى أن زوجته تقول إنه شيخ وهو لا يريد أن يكون شيخاً، لأن العرب يجدون في الشيبوبة عند النساء وصمة ولذلك يقول:
عيَّرَتْنِي بالشيب وهو وقار وليتها عيرت بما هو عار
وفي القرآن: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:٢٣] وكأن إيراد كلمة (كبيران) هنا لفائدة؛ لأنه لو قال شيخ وسكت لتُوُهِّم أنه شيخ نسبي إضافي، أي دخل في الشيخوخة، وليس كبيراً في السن.
قال {كان لي أبوان شيخان كبيران}:
أي: كنت أعلم أنهما في الشيخوخة وأنهما لم يكونا صغيرين؛ لأن بعض الأبناء يبر والديه خوفاً منهما لا خوفاً من الله، ولا لطلب الحسنات؛ فهذا يقول: أنا ما خفت من والديَّ، فهما شيخان كبيران لا يستطيعان أن يضرباني أو يعضاني أو يمسكاني ويضرباني.
وقوله: {وكنت لا أغبق}:
الغبوق هو: شرب اللبن، آخر النهار، والصبوح شربه بعد الفجر.
وأما قول الشاعر:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندلينا
فاصبحينا معناه: أعطينا الخمر، ولكن هنا في اللبن وشرب آخر النهار منه يسمى غبوقاً.
قال: {اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً}:
أي: أنت تعلم أني كنت آتي باللبن في آخر النهار فما أقدم على والديَّ أحداًَ من أهلي ولا مالي، والمقصود في الحديث بالمال: الرقيق، ويدخل فيها حتى من يشرب اللبن ممن يقبل شرب اللبن، ولكن المقصود هنا الرقيق.
قال: {فنأى بي طلب الشجر}
يعني: كنت أرعى الغنم، وأبحث عن الشجر للغنم حتى تأخرت عن العودة في المساء.
قال: {فلم أُرِِحْ}:
ويجوز أن تقول: أَرُحْ، والرواح في آخر النهار، والغدو في أول النهار، ويجوز أن يكون في أول النهار، يقول عليه الصلاة والسلام: {من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح} فالغدو معناه: الذهاب إلى الشيء، والرواح: الرجوع من الشيء، وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:٦] لكن الرواح هنا المقصود به: آخر النهار، ومن هنا فإن الإمام مالكاً يرى أن ساعات الذهاب إلى الجمعة تبدأ من بعد الزوال، وفي المسألة خلاف، فغيره من أهل العلم قالوا: لا، قد يطلق الرواح على الذهاب والغدو إلى الشيء.
قال: {فلم أَرُحْ عليهما حتى ناما}.
رجع بإبله فحلب فأتى بالإناء فوجد الشيخين الكبيرين (الوالدين) نائمين -وانظر إلى اللطافة- ما أيقظهما لأنه خاف أن يعكر عليهما النوم، وليس بعد هذا البر من بر، ولا بعد هذا الإحسان من إحسان، وهذا ما فعله كثير من الصحابة وكثير من السلف؛ كان الواحد منهم يأخذ الماء لوالده فيقف حتى يستيقظ والده، وكان بعضهم يحمي الماء لوالده في شدة الشتاء فإذا استيقظ الوالد قدم له الإناء ليتوضأ، هذا هو البر.
قال: {فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما، حتى برق الفجر والصبية يتضاغَون عند قدمي} أطفاله يتضاغون عند قدمه من الجوع، ويتلمظون من الحسرة والضنى فما أشربهما وما أيقظ والديه {فاستيقظا فشربا غبوقهما؛ اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك}:
هذا هو الشاهد، أي: إن كان إخلاصاً لا رياءً ولا سمعة، فإن بعض الناس يفعل بعض البر رياء وسمعة، يأتي والمجلس مجتمع والناس حضور؛ فيأتي يصب القهوة فيبدأ بأبيه فيقول الناس: ما شاء الله ما أبره بأبيه! أو يدخل المجلس أمام الناس فيبدأ بأبيه فيقبل يديه ورأسه، ولكن إذا خرجوا أعطى والديه يديه، فهو أمام الناس بار وفي الخفاء من أجفى الجفاة.
قال: {ابتغاء وجهك} أي: لا لطلب السمعة ولا الرياء {ففرِّج عنا ما نحن فيه} أي: من الصخرة؛ فانفرجت شيئاً -أي: قدر الثلث وبقي ثلثان- فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه.
تصور المشهد حين ينتهي من الدعاء فتتحرك الصخرة قليلاً؛ كيف تكون مشاعرهم وقلوبهم يوم اتصلت بالواحد الأحد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وبدأ الإخلاص معهم! وهذا من كرامات الأولياء التي سوف أذكرها.