[حرمان العلم]
أولها: حرمان العلم.
فإن العلم هبة من الله، والفهم عطية منه، والفقه مادته منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يهبها لمن يشاء، والله ربط العلم والفهم بالتقوى، فقال عز من قائل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٢] وإذا أعطى الله العلم صاحبه، أو علمه حديثاً أو آية أو قضية، أو بصره، أو رده عن خطأ ولم يتعظ؛ سلب الله العلم منه، وأطفأ نوره وشهابه ومصباحه، فجعله في الدنيا في ظلمات، ثم أوعده بظلمات في الآخرة فأهل الظلمات على الصراط إنما هووا على وجوههم في النار؛ لأنهم ما وجدوا نور الطاعة في الدنيا، ولأن ظلمات المعاصي أحاطت بهم.
ولذلك قال الله تعالى عن بني إسرائيل لما عصوه وأفسدوا في الأرض واستوجبوا غضبه ولعنته: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء:١٥٥] أي: بمعاصيهم؛ لأن في عنقك يا مسلم عهد من الله، من يوم خلق الله آدم ونثر ذريته كالذر من ظهره أخذ الميثاق عليهم ألَّا يُعبد إلا هو، فأنت قد أعطيت الله ميثاقك مرتين: مرة يوم أخذه من ظهر أبيك آدم، ومرة يوم أرسل لك محمداً عليه الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار} وقد دخلت دعوته إلى كل بيت، فيعز بعز طاعته كل عزيز، ويذل بذل معصيته كل ذليل.
فأول عقوبة حرمان العلم، قال الله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:١٣].
أتى الإمام الشافعي رحمه الله ليزور مالك بن أنس في المدينة، وهو إمام دار الهجرة، فرأى مالك نور الطاعة على وجه الشافعي، ورأى السمت والوقار، فأخذه بيده وقال: "يا شافعي! إني أرى عليك نور الطاعة فلا تطفئ نور طاعتك بمعصية الله".
وذهب الشافعي إلى شيخه وكيع بن الجراح العالم الكبير المحدث، فقال: عظني، ما هو أنفع دواء للحفظ؟ كيف أحفظ القرآن؟ كيف أحفظ الحديث؟
قال: عليك بتقوى الله، وإياك والمعاصي فإنك لن تنسى العلم بمثل المعاصي، قال الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
مر أحد الناس فرأى امرأة فنظر إليها، فقال له أحد العلماء: تنظر إلى الحرام! والله لتجدن غبها وعقوبتها ولو بعد حين.
قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
وقال بعض أهل العلم: لما قال يعقوب لأبنائه: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:١٣] أوحى الله إليه: يا يعقوب! خفت الذئب وما رجوتني!
فمن الذي يحفظ إلا الله؟
ومن الذي يرعى إلا الله؟
ومن الذي يسدد إلا الله؟.
ومن الذي يهدي إلا الله؟
فيقول: يا يعقوب! أرسلت ابنك وما قلت: يحفظه الله وقلت: أخاف أن يأكله الذئب.
فأخذه إخوانه فغاب عن أبيه أربعين سنة.
قال أحد الصالحين -وهو أبو سليمان الداراني -: إني لأرى وجهي في المرآة كل يوم مرات، أنظر هل اسود وجهي من المعاصي؟! هذا وهو ولي، قائم الليل صائم النهار صادق مع الله مخلص ومع ذلك يأخذ المرآة ينظر هل تغير وجهه.
فقل لي بالله! كم أذنبنا! وكم أخطأنا! وكم ارتكبنا من ذنب وخطيئة الله أعلم بها! لكننا أصبحنا لا نشعر، فهم يشعرون لأن فيهم حياة، ونحن لا نشعر لأن قلوبنا قد ماتت من كثرة المعاصي.
ولذلك يقول أحد السلف: "إنني لأنكر أخلاق الناس معي بسبب المعاصي" وقال بعضهم: ما فعلت معصية إلا تغير الناس لي، وهذا أمر واقع، وأنت بإمكانك أن تجرب علاقتك مع الناس، وتسهيل أعمالك ومراجعاتك، فإنها لا تسهل إلا بطاعة الله، وإذا تعقدت وتصعبت فبسبب المعاصي فالحذر الحذر! والبدار البدار إلى التوبة! فلا ملجأ من الله إلا إليه بتوبة نصوح.
وأبغض الناس إلى الله هم العصاة، فلا يمكن أن يفقههم في دينه أو يعلمهم، ولذلك لا يستفيدون من الموعظة ولا يفهمون، والله ذكر بني إسرائيل فقال: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:٥] فهم عطلوا أمر الله ونهيه وتعاليمه؛ فجعلهم كالحمير لا تفهم ولا تعي، وقال عن عالمهم: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:١٧٦] ولذلك يقول الأول:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
فتجد الذي يستمع الغناء أو ينظر إلى الحرام كثيراً، أو يأكل الربا، أو يسهر على البلوت وعلى معصية الله، أو يعاشر الفاجرين المعرضين؛ تجده لا يحس بالذنوب، يقول ابن مسعود كما في صحيح البخاري: [[إن المؤمن ينظر إلى ذنوبه كأنها جبل يريد أن يسقط عليه، وإن الفاجر ينظر إلى ذنبه كأنه ذباب وقع على أنفه فقال به هكذا]] فأسرع الناس اقترافاً للذنوب هم الفجرة، ولذلك تجدهم يستصغرون كبائر الذنوب وسوف يأتي بيان ذلك، فحذار حذار يا من له طريق إلى العلم أو الفهم من المعاصي! نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم من الذنوب والخطايا، وأن يثبتنا حتى نلقاه.