للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[يعقوب وابنه يوسف عليهما السلام]

هذا يعقوب عليه السلام يصاب بمصيبة، والعجيب أن المصائب التي عرضت في القرآن على أنواع، وما كانت على وتيرة واحدة، فنوع الله المصائب والنعم على الناس، وله في ذلك الحكم البالغة، فإن يعقوب عليه السلام لم يبتلَ بأن يكون ابنه ضالاً كابن نوح عليه السلام، ولا بأن يذبح ابنه كما ابتلي به إبراهيم، ولكن ضل منه ابنه يوسف عليه السلام، فلم يدر أين ذهب فكان يردد دائماً {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:١٨] وبلغ يوسف في قلبه الشغاف من الحب، فلما ابتعد عنه كان مقدار هذا الابتعاد أربعين سنة:

بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا

نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا

فأخذ يبكي ويكظم أنفاسه، حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، وأخذ يقول: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، فلما علم الله تفويضه ورده الأمر إليه، رفعه بالابتلاء لما صبر وشكر، وهذا عاقبة العبد يوم أن يفقد شيئاً غالياً نفيساً عليه، فيحتسب ذلك عند الله عز وجل.

ويوسف عليه السلام ابتلي في عرضه، واتهم فصبر واحتسب، وفوض أمره إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فرفعه الله رفعة ما بعدها رفعة، وأثنى عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقال: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:٢٤] لماذا؟ لأنه صبر على هذه البلوى العظيمة، ولذلك يذكر ابن القيم في مدارج السالكين نقلاً عن ابن تيمية، قال: إنما عَظُمَت مصيبة يوسف عليه السلام بأمور، وكان أجره ورفعته عند الله عز وجل لأمور:

منها: أنه شاب، وهو أقدر على الفاحشة.

ومنها: أنه غريب، والغريب لا يجد ملاماً ولا عتاباً من الناس.

ومنها: أنه في بيت امرأة عندها سلطان، فهي لا تخاف على نفسها من السلطان ولا من تطبيق الحدود.

ومنها: أن هذه المرأة جميلة.

ومنها: أنها لبست حليتها وذهبها وفضتها.

ومنها: أنها خلت به.

ومنها: أنها غلقت الأبواب.

ومنها: أنها هددته.

ومع ذلك كله صبر، وقال: معاذ الله -وما أحسن هذه الكلمة! - فرفعه الله، فنحن نقرأ قصته دائماً في القرآن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

فيا سبحان الله! كيف يرفع بعض الناس بالصبر، وكيف يرفعهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالابتلاء إذا عدوا ذلك قضاء وقدراً فآمنوا به وأنزلوه منازله.

<<  <  ج:
ص:  >  >>