للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[برحمة الله تنال الجنة]

وذكر أهل السنن والتواريخ أن من عباد بني إسرائيل، وبنو إسرائيل فيهم عجب عجاب، سوف يذكر الله لنا من أعاجيبهم أموراً تذهل وتشيب الرأس، ويقول عليه الصلاة والسلام: {حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج} فهذا عابد من بني إسرائيل جلس في جزيرة، ليس عنده جليس يؤذيه، ولا امرأة تقليه، ولا عنده جارٌ يؤذيه ويشتمه ويسبه، إنما كان عابداً لله صباح مساء، عنده رمانة يأكل منها، وعنده عين ثجاجة باردة يشرب منها، فلما عبد الله خمسمائة سنة توفاه الله الذي يتوفى الأنفس، فحاسبه ربه، قال: يا عبدي! أتريد الجنة بعملك أم تريد الجنة برحمتي؟ والله أرحم الراحمين.

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته} وفي لفظ مسلم: {قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته} فيا من ظن أنه أكثر من الصلاة، كأنك ما صليت، ويا من ظن أنه أكثر من الصيام والجهاد والصدقة والبر والإحسان، كأنك ما تصدقت ولا وصلت ولا بررت ولا فعلت شيئاً، غمرتك نعم الله، فعملك كأنه ذرة في بحر.

إذاً فهو هباء منثور.

فحاسبه الله، ولكن هذا العبد اغتر بعمله، صلاته خمسمائة سنة، وصيامه خمسمائة سنة، وذكره خمسمائة سنه، قال: بل أدخل الجنة بعملي.

ولذلك فإن لـ ابن القيم وقفة عجيبة عملاقة على عادته، وعلى تيقظه وذكائه، يقول: يقول الله عز وجل: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:٧٢] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله} فكيف نجمع بين الآية والحديث؟ الله يقول: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:٧٢] بصلاتكم، بصيامكم، بجهادكم، بحجكم، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام ينفي، ويقول: لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله إلا برحمة الواحد الأحد، قال ابن القيم: ويجمع بينهما بأحد جمعين: أحدهما: أن نزول المنازل داخل الجنة وارتفاع الدرجات يكون بأعمالنا، وأما الدخول الأولي فبرحمة الله.

إذاً فالدخول لا يحصل لك إلا برحمة أرحم الراحمين، وإن لم تدركك رحمته فقد تقطعت بك الحبال، وانتهت بك الأسباب، وتدهدهت عليك الجبال، وضاعت عليك الحيل.

فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان

ولذلك ذكر ابن تيمية وغيره المكفرات العشر منها: الحسنات الماحية -أي الأعمال الصالحة- والمصائب المكفرة، ودعوات المؤمنين، وما يجده الإنسان في سكرات الموت، وما تجده في القبر، وما تجده يوم العرض الأكبر، وما تجده عند الصراط والميزان والحوض، وشفاعة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وشفاعة الأخيار من الأولياء، ثم تأتي العاشرة: رحمة أرحم الراحمين، قال: فإن لم تدركك رحمة أرحم الراحمين، فقد شردت على ربك، كما يشرد البعير الشارد على أهله، فمن يرحمك إذا لم يرحمك الله؟!

فـ ابن القيم يرتضي هذا الجمع، قال: الدخول: برحمة الواحد الأحد، ونزول المنازل: بالأعمال، ولذلك بعض الناس يرى في الجنة كالكوكب الدري، وبعضهم في الدرجة الثانية: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران:١٦٣].

فأما أبو بكر فلا تسل عن درجته، فهو في قصر كالربابة البيضاء يراه من دخل الجنة، فهو في المنزلة الأولى من الصالحين بعد الأنبياء والرسل، ثم يتلوه عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم يأتي الناس على حسب منازلهم، والمحروم من حرم دخول الجنة: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:١٨٥].

وبعض الناس يجمع بجمع آخر، فيقول: عمله من رحمة الله، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {لن يدخل أحد منكم الجنة إلا برحمة الله} يقول: عمل الناس من رحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فيرحمهم فيعملون صالحاً، ثم ينزلون منازلهم ويدخلون الجنة بعملهم، هذا جمع آخر.

<<  <  ج:
ص:  >  >>