للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[حق الجار]

السؤال

تحصل بين بعض المسلمين خلافات ومشاكل يترتب عليها الجفاء بين الجيران، والقطيعة، وعقوق وأذية للجار، والتكبر وغير ذلك، ويستمر ذلك لسنتين، فما هو توجيهكم نحو هذه الأمور؟

الجواب

المشاكل التي يشكو منها الناس، والذنوب والمعاصي والخطايا التي في المجتمع، لا يحصيها إلا الله.

تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد

كل مسألة ذكرت -أيها الأخ الفاضل- تحتاج إلى محاضرة بل محاضرات ومجلدات وندوات؛ لأننا أصبحنا مثخنين بالجراح من الذنوب والخطايا، قطيعة الرحم، عقوق الوالدين، أذية الجار، السوء إلى المسلمين، انتشار الأغاني الماجنات، المخدرات، التبرج منتشر عند الناس إلا من رحم الله، ضياع الأوقات، تفلت الشباب، ضياع السنة، عدم تدبر القرآن، عدم تذكر الله، الأيمان الغموس، الظلم، الحسد، الحقد، كلها ذنوب وخطايا نشكو حالنا إلى الله.

يعني: أصبح مثل المريض الذي في كل جسم منه جرح.

ومن يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام

وأما ما ذكرت؛ فالجار من أعظم ما يتساهل به خاصة في القرى، والمدن أحسن حالاً في الجيران، لأنك غريب مع غرباء فتريد أن تصلح الحال، أما القرى فمن يوم خلقنا الله ونحن نعرف جيراننا يميناً وشمالاً وأماماً وخلفاً، فأصبح بينهم القطيعة إلا من رحم الله، تجد الجار يؤذي جاره لا يأمنه، ومن نكد الحياة أن يكون لك جار سوء.

في الحديث: أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! أشكو إليك أذية جاري، قال: ماذا فعل؟ قال: إن غبت ما أمنته وإن حضرت آذاني، وهتك عرضي، وأخذ مالي، وظلمني.

قال عليه الصلاة والسلام: اصبر لجارك علَّ الله أن يهديه، فذهب وصبر قليلاً، لكنه ما اهتدى، فعاد يشكو إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: خذ متاعك وزوجتك وأولادك وانزل في سكة من سكك المدينة، فأخذ زوجته وأثاثه على ظهره، ونزل وجلس في السكة، فأصبح الناس يسرحون عليه ويروحون ويغدون فيقولون: ما لك يا فلان؟ قال: آذاني جاري حتى أخرجني قالوا: لعنه الله، فيصبح من مرَّ عليه يقول: ما لك يا فلان؟ قال: آذاني جاري، قالوا: لعنه الله، ويمشي الماشي وقال: ما لك؟ قال: آذاني جاري قال: لعنه الله، فسمع بالخبر جاره، فأتى إليه وقال: أتوب إلى الله، والله لا أوذيك، عد إلى دارك.

ولذلك يبلغ الحد ببعض الناس إلى أنه لا يذكر الله عز وجل تماماً ولا يقوم بحق الجار.

وقد كان الجاهليون من ضمن ما يتمادحون به حفظ حقوق الجار، حتى يقول عنترة:

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها

يقول: من كرم نفسي وشهامتي ومروءتي إذا بدت جارتي؛ غضضت طرفي حتى تدخل البيت، وهو ليس عنده كتاب ولا سنة ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، بل هو جاهلي وثني.

ولذلك وجد في الإسلام من أهل حفظ الجار أناس كثير، أذكر على سبيل المثال: أبو حنيفة، عالم المسلمين، كان من أعبد عباد الله وأزهدهم، كان له جار يؤذيه.

كان أبو حنيفة يأتي بعد صلاة العشاء يريد أن يسبح الله، ويصلي ويبكي ويدعو ويقرأ القرآن، لكن هذا الجار عزوبي ليس عنده إلا طبل يضرب عليه ويرقص ويقول:

أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر

فكان أبو حنيفة لا يستطيع أن ينام ولا يستطيع أن يقرأ، ولا أن يصلي، فيصبر ويحتسب، وفي ليلة من الليالي الطويلة ما سمع أبو حنيفة الصوت، انتظر هل يسمع صوتاً، ما سمع الرقص ولا سمع ضرب الطبل ولا سمع الدربكة، فعجب! طرق على باب الدار فما أجابه أحد، سأل الجيران: أين فلان؟

قالوا: أخذته شرطة السلطان، قال: سبحان الله! جاري يأخذونه ولا يخبرونني! ثم ذهب في الليل فركب بغلته ولبس ثيابه، فاستأذن على السلطان وسط الليل.

قال الجنود للسلطان: أبو حنيفة إمام الدنيا يريد مقابلتك، فقام السلطان من نومه والتقى به عند الباب يعانقه، قال له: يا أبا حنيفة لماذا ما أرسلت إلينا؟ نحن نأتيك لا أن تأتينا، قال: كيف أخذتم جاري وما أخبرتموني به؟

قالوا: إنه فعل وفعل وفعل، قال: ردوا عليّ جاري، قالوا: لو طلبت الدنيا لأعطيناك الدنيا، فركب جاره معه على البغلة وأخذ جاره يبكي.

قال أبو حنيفة: ما لك؟ قال: آذيتك كل هذه الأيام والأعوام والسنوات وما تركتك تنام ولا تصلي ولا تقرأ، ولما فقدتني ليلة أتيت تتشفع فيّ، أشهد الله ثم أشهدك أنني تائب إلى الله.

لقد كانوا يدعون الناس بأخلاقهم وبتعاملهم.

سكن يهودي بجانب عبد الله بن المبارك أحد العلماء الصالحين، وكان عبد الله بن المبارك إذا اشترى لحماً من السوق بدأ بأولاد الجار اليهودي، نحن لا نقول: نبدأ بأبناء اليهود لكن بأبناء المسلمين، ونحن لا نقول: اأعطوا الناس لحماً واكسوا أبناء الناس، لكن نكف أذانا فقط، نعم.

مكانك تحمدي أو تستريحي

فـ عبد الله بن المبارك كان إذا اشترى لحماً أعطى أولاد جيرانه، وإذا كساهم كسا أبناء جيرانه، وإذا أخذ فاكهة بدأهم، فأتى أناس من التجار يشترون دار اليهودي فقال: داري ثمنها ألفي درهم، الألف الأولى قيمة الدار وأما الألف الثانية فقيمة الجوار -جوار عبد الله بن المبارك - فسمع عبد الله بن المبارك ذلك وقال: والله لا تبيعها، هذه ألف درهم ثمن جوار عبد الله بن المبارك وابق جاراً لي، ثم قال عبد الله بن المبارك: اللهم اهده إلى الإسلام، فما أصبح في اليوم الثاني إلا وقد أسلم لله رب العالمين.

فمسألة الجار لا بد أن ينتبه لها، يقول عليه الصلاة والسلام: {ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه}.

<<  <  ج:
ص:  >  >>