للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ترجمة سعيد بن المسيب]

قبل أن نبدأ في شرح الحديث معنا علم من الأعلام سوف يمر في الأسانيد، وهو يمر كثيراً في صحيح البخاري وفي كل كتب العلم، وهو أشهر من نار على علم، وكما تعودنا أن نأخذ نموذجاً فريداً من السلف الصالح سواء كان من الصحابة أم من التابعين، أم من القرن الثالث، لنستضيء بسيرتهم، ولنجدد حبهم في الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، علَّ الله أن يحشرنا في زمرتهم، صاحبنا في هذا الدرس هو سعيد بن المسيب وأبو محمد القرشي الزهري؛ عالم أهل المدينة، في قرن التابعين، أدرك كثيراً من الصحابة، وسمع خطبة عمر رضي الله عنه على المنبر وحفظها، أدركته بركة من الله؛ لأنه رضع ثدي أم المؤمنين أم سلمة، هو والحسن البصري، فأكسبه الله بهذه الرضعة الطيبة من تلك الأم الحنون الرءوم الماجدة الشريفة، فصاحة، وبراعة، وعلماً نافعاً، وعاش رضي الله عنه في زهد، وعفاف منقطع النظير، وطلب العلم فنافس الأقران وأصبح وحيد الدهر، في تلك الفترة، كان رضي الله عنه، يتحدث بنعمة الله عليه يقول: [[من أربعين سنة، ما فاتتني تكبيرة الإحرام في المسجد]].

ويقول: [[والله ما نظرت منذ أربعين سنة إلى قفا أحد إلا الإمام]] يعني: أنه دائماً في الروضة وراء الإمام، فلا ينظر إلى قفا أحدٍ، أي: أنه لم يصلِّ في مرة من المرات في الصف الثاني، ولذلك سئل: من حافظ على الصلوات الخمس أعابد هو؟ قال: [[من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر من العبادة]].

وأما برنامجه اليومي فكان يصلي الفجر ويجلس في المسجد يسبح، وكان يلبس البياض دائماً، حتى أن من رآه يتذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ويذكر الله، وكان مخبتاًَ دائماً لا يرفع نظره، ولا ينظر إلى السماء من كثرة خشيته، حتى أن بعض الجواري يقلن لآبائهن: "مر بنا الأعمى اليوم" يقصدون: سعيد بن المسيب وليس بأعمى رضي الله عنه، لكن من كثرة خشوعه يظن الناس أنه أعمى، كان يجلس مستقبل القبلة حتى تطلع الشمس، ثم يصلي ما يسر الله له، ثم تنظم له حلقات العلم في المدينة، فيتهدر منه العلم كالبحر العجاج رضي الله عنه وأرضاه، فكان هو المفتي في الدولة الإسلامية، ثم يستمر إلى قرب صلاة الظهر فينام نومة في بيته، ثم يعود، والذي أثر عنه أنه صام الدهر إلا عيد الفطر وعيد الأضحى.

وكان يستمر فإذا أتى وقت الإفطار ذهب إلى ابنته -وقد ماتت زوجته وهي بنت أبي هريرة - فيفطر عندها ثم يعود إلى المسجد فيصلي، ثم يصلي العشاء، ثم يقرأ ما تيسر له من أوراده وذكره قليلاً، ثم يقوم ويصلي إلى الفجر، ويتقطع صوته بالبكاء، واستمر على البكاء من خشية الله حتى ذهبت إحدى عينيه، ولذلك قال له أحد تلاميذه: [[لو خرجت إلى العقيق الوادي الجميل الأخضر، علَّ بصرك أن يثوب إليك -يعني: بصره في العين الأخرى أما تلك فقد ذهب ضوءها ونورها- قال: وأين لي بشهود العتمة، ومن يضمن لي صلاة بألف صلاة في غير مسجده صلى الله عليه وسلم، فرفض أن يخرج]].

وكان شديداً في ذات الله لا تأخذه لومة لائم أبداً [[حاول عبد الملك بن مروان خليفة الدولة الإسلامية وأمير المؤمنين في تلك الفترة، أن يبايع لابنه الوليد بيعة ثانية ويلزم المسلمين بها -كما تعرفون ذلك- فتوقف المسلمون جميعاً حتى يبايع سعيد بن المسيب؛ لأنه رجل الموقف، ورجل الساعة في تلك الفترة، قالوا: "إذا بايع سعيد فسوف نبايع كلنا" وتوقفت الأقطار على فتواه، وأتى الوزراء إلى سعيد بن المسيب فرفض وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يبايع لخليفتين في وقت واحد} وحاول عبد الملك معه بشتى الوسائل، أعطاه المال فرفض، ومناه ورجاه فرفض أيما رفض، وفي الأخير أتاه والي المدينة فخيره بين ثلاثة خيارات: إما أن يخرج من المدينة حتى يبايع أهل المدينة؛ لأنهم لا يبايعون وهو موجود، وإما أن يلزم بيته فلا يخرج أبداً، وإما أن يدخل من باب ويخرج من الباب الثاني، ويتظاهر للناس أنه بايع ولا يبايع، قال: أما قولك أخرج لأعتمر أو أخرج من المدينة، فما كان لي أن أعتمر أو أدخل مكة بدون نية، وأما أن ألزم بيتي فوالله لا أترك شهود العتمة والصلاة في المسجد حتى يحال بين رأسي وجسدي، وأما أن أدخل من باب وأخرج من باب آخر فوالله لا أغر مسلماً أبداً.

ثم حاولوا استدراجه فرفض، وجُلد رضي الله عنه ما يقارب مائة جلدة، وطيف به على بعير، وبكى أهل المدينة عن بكرة أبيهم على هذا الإمام العالم الزاهد العابد، وحاول أن يسترضيه عبد الملك قبلها، وكأن عبد الملك وجد في نفسه لأنه خطب ابنته العابدة الصوامة القوامة لابنه الوليد بن عبد الملك ولي عهد المسلمين والخليفة المنتظر، فرفض سعيد بن المسيب وحاول العلماء، ألا يرفض وقال: أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم أتريدون أن أدخل ابنتي بعد قيام الليل، وصيام النهار، وحفظ القرآن، على أبناء مروان، لا يكون هذا أبداً.

وفي الأخير زوجَّها من فقير كان يدرس معه ماتت زوجته فسأله: لم تأخرت؟ قال: مرضت زوجتي ثم دفنتها وأتيت، قال: هل لك من دراهم؟ -قال: معي درهمان -وقيل: أربعة دراهم- قال: أتريد ابنتي؟ فدهش الرجل وما صدق وظن أن هذا من الأحلام!! زوجه رضي الله عنه من ابنته، فوجدها حافظة كحفظ أبيها، فقيهة كفقه أبيها، عابدة عبادة أبيها، زاهدة زهد أبيها، رضوان الله عليهم جميعاً]] من كلماته النيرة المشرقة: [[سئل في المسجد ماذا يقطع الصلاة؟ قال: يقطعها الفجور ويسترها التقوى]].

وقال رضي الله عنه: [[الناس في كنف الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فمن أراد أن يخرجه من كنفه سلط عليه المعصية]].

ومرت في كتب السير والتواريخ دعابة له رضي الله عنه: وذلك أن تاجرة عراقية أتت ببراقع؛ والبراقع: لباس يلبس في العراق، ولا يلبس في المدينة؛ لأن أهل الحجاز لا يعرفون ذلك، وظنت العراقية أنها سوف تكسب مالاً طائلاً فذهبت ببراقعها على بعير فنزلت في أهل المدينة، فما عرفوا ما هي السلعة هذه، فما شرت امرأة واحدة أبداً، وفي الأخير أرادت أن تعود إلى العراق بتجارتها، فعرضت لها امرأة فقالت: "إن كنتِ تريدين أن تبيعي تلك البراقع فتعرضي لأحد الشعراء ليمدح البراقع، فإنها سوف تباع في وقتها، فذهبت المرأة وأهدت إلى رجل هناك من أهل المدينة هديه، وهذا الرجل اسمه ابن عنين وهو شاعر، وقالت: امدح البراقع، فعرض بـ سعيد بن المسيب في قصيدته يقول:-

قل للمليحة في الخمار الأسودِ ماذا فعلتِ بناسك متعبد (١)

قد كان يمم للصلاة بوجهه حتى وقفت له بباب المسجد

يقول إن لابسة الخمار فتنت حتى سعيد بن المسيب على عبادته وزهده وجلالته، فسمع سعيد بن المسيب، فاستغفر وتبسم وقال: [[والله ما كان من ذلك من شيء ولكن صدق الله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:٢٢٤ - ٢٢٦]]].

رضي الله عنه وأرضاه كان إذا تكلم بكلمة في غير ذكر الله استغفر مائة استغفارة، توفي رضي الله عنه بعد هذا العمر المديد، وهو من فقهاء المدينة السبعة، وممن يتقرب بحبهم إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، نسأل الله أن يحشرنا في زمرته، وفي زمرة الأخيار الأبرار من أصحاب محمد ومن التابعين لهم بإحسان.

<<  <  ج:
ص:  >  >>